القرآن الكريم آية في الإعجاز البياني في أسلوبه ، وإيجازه ، وأمثاله ، وجمله ، وفواصله ، وفي ابتدائه ، وفي خلوصه ، وفي انتهائه. كما قال الإمام السيوطي – رحمه الله – في خاتمة ألفيته في البلاغة:
وسور القرآن في ابتدائها = وفي خلوصها وفي انتهائها
واردة أكمل وجه وأدل = وكيف لا وهو كلام الله جل
ومن لها أذعن بالتأمل = بان له كل خفي وجلي
يقول الحق سبحانه: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ) أين الجواب ؟ وما تقديره ؟
الجواب محذوف وتقديره إما :
أنه لو كان هنالك قرآن تسير به الجبال وتقطع به المسافات ويكلم به الأموات لكان هذا القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تكفرون به ؛ ذلك أن بعض من مشركي مكة أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فقالوا له : إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن ؛ فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخرت له الجبال تسير معه ، وسخر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها حوائجنا ، ثم نرجع من يومنا ; كما سخرت لسليمان ؛ فلست بأهون على ربك منه ، وأحيي لنا قصيا جدك ، أو من شئت من أمواتنا فإن عيسى كان يحيي الموتى ؛ ولست بأهون على الله منه : (( قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ )) [الأنعام: 124]
فأنزل الله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال… الآية ; أي لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم ؛ لعظمته وقوة تأثيره -وكيف لا- وهو لو أنزل على جبل لتصدع من خشية الله كما قال الحق سبحانه في سورة الحشر الآية 21 (لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) والذين أحسوا شيئاً من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقاً لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع كما يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال . وقد قال أمير الشعراء في ميميته:
جاء النبيون بالآيات فانصرمت *** وجئتنا بكتاب غير منصرم
آياته كلما طال المدى جدد *** يزينهن جلال العتق والقدم
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له *** وأنت أحييت أجيالا من العدم
﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ﴾[الأنعام: 122].
ورب حي رخام الأرض مسكنه ** ورب ميت على أقدامه انتصبا
لكن قلوبنا معاشر البشر قاسية بل قد تقسوا أحيانا حتى تكون أشد من الحجارة ولا يغرنك لين ملمسها؛ فقد قال تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ البقرة : 74 ].
أما الاحتمال الثاني لجواب “لو” فهو: ما ذكره بعض المفسرين من أن تقديره لو سيرت لهم الجبال بالقرآن وطويت لهم به الأرض طيا وكلم به الموتى لما آمنوا ولظلوا على كفرهم وكأن هذا الجواب المضمر هنا هو ما أظهر في قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111 ].
أي “لو جاءتهم الآيات العظيمة، من تنزيل الملائكة إليهم يشهدون للرسول بالرسالة، وتكليم الموتى ، وبعثهم بعد موتهم، وحشر كل شيء إليهم حتى يكلمهم ( قُبُلا ) ومشاهدة، ومباشرة، بصدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ما حصل منهم الإيمان، إذا لم يشأ الله إيمانهم، ولكن أكثرهم يجهلون.” هكذا يقول السعدي رحمه الله وهذه الآية كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 96، 97].
وكقوله: { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ الأنعام : 7 ] أي لو أنـزلت عليك، يا محمد صلى الله عليه وسلم الوحيَ ، في صحف يعاينونها ويمسُّونها بأيديهم، وينظرون إليها ويقرؤونها بحقيقة ما تدعوهم إليه، وصحَّةِ ما أتيتهم به من توحيدي وشرائعي لقالوا ” إنْ هذا إلا سحرٌ مبينٌ” ، أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر سحرتَ به أعيننا, ليست له حقيقة ولا صحة.
وكأن في هذا إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما رغب في تلبية شيء من ذلك التحدي لإقامة الحجة عليهم بما طلبوا ليؤمنوا رحمة بهم وشفقة عليهم وكان حريصا على إيمانهم كما قال تعالى عنه: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً } [ الكهف:6 ] لأنه كان صلوات الله وسلامه عليه إذا لم يجيبوه يحزن حزناً شديداً، ويضيق صدره حتى يكاد يهلك، فسلَّاه الله وبيّن له أنه ليس عليه من عدم استجابتهم من شيء، وإنما عليه البلاغ فقط وما يتعللون به من الحجج ويطلبونه من الآيات ما هو إلا من عنادهم ومكرهم ولو جئت به ما آمنوا لك.
وهكذا نجد بعض الدعاة حينما يحاور ملحدا أو يدعوا فاسقا فيجادله بالباطل يعظم ذلك عنده ويتمنى لو يستطيع أن يأتيه بمعجزة ويتحداه بآية ليؤمن وينزجر ولو فعل لما أذعن له يقول الداعية الشيخ النابلسي: (الهِداية قرار داخِلي يتَّخِذُهُ الإنسان في أعْماق نفسِهِ، فإذا أراد أن يَهْتدِيَ إلى الله فأَصْغَر شيءٍ يهديه إلى الله ! أما إن أعْرَض عن الهِدايَة فلو عاشَ مع النبي عليه الصلاة والسلام كتِفًا بِكَتِف، ورآهُ رأْيَ العَيْن، وقرأ القرآن فمَشَتْ الجِبال، وقطع الأرض، وكلِّم به الموتى، فخَرْق القوانين لا يمكن أن يُقْنِعَ إنسانًا بالهُدى…)
وهكذا يقول الحق سبحانه: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآَناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً } [ الرعد : 31 ]
وخلاصة القول في ذلك أن هذا المحذوف المقدر إما كون القرآن هو أعظم الكتب المنزلة من عند الله ولو قهرت نواميس الكون وقوانين الطبيعة بقرآن لكان هذا القرآن، وإما أنه لو فعل ذلك كما طلبتم فلن تؤمنوا عنادا وكبرا: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [ النمل : 14 ]
إننا بحاجة إلى تدبر كتاب ربنا سبحانه والوقوف معه والخلوة به؛ ليزداد إيماننا، وتشرق نفوسنا، وترق قلوبنا بفهم ما فيه من مواعظ وأمثال ووعد ووعيده وقصص وغير ذلك مما تضمنه بأحسن بيان وأوضح برهان: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } [ النساء : 82 ].