السياسة الشرعية
في إصلاح الراعي والرعية
تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية
(رحمه الله)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد
لله الذي أرسل رسله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط،
وأنزل الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن
الله قوي عزيز، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله بالهدى ودين الحق،
ليظهره على الدين كله، وأيده بالسلطان النصير، الجامع معنى العلم والقلم للهداية
والحجة، ومعنى القدرة والسيف للنصرة والتعزير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، شهادة خالصة خلاص الذهب الإبريز، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، وشهادة يكون صاحبها في حرز حريز. (أما
بعد) فهذه رسالة مختصرة، فيها جوامع من السياسة الإلهية والإنابة النبوية، لا
يستغني عنها الراعي والرعية، اقتضاها من أوجب الله نصحه من ولاة الأمور، كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم، فيما ثبت عنه من غير وجه: {إن الله يرضى لكم ثلاثة: أن
تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا
من ولاه الله أمركم} موضوع الرسالة (وهذه) وهذه رسالة مبنية على آية الأمراء في
كتاب الله، وهي قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا
حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا.
يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في
شيء فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن
تأويلا} (قال العلماء) نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات
إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية من
الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم
ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بمعصية فلا طاعة لمخلوق
في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم. وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك، أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله، لأن ذلك
من طاعة الله ورسوله، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله {وتعاونوا على البر
والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات
إلى أهلها، والحكم بالعدل. فهذان جماع السياسة العادلة، والولاية.
الباب الأول أسس اختيار الولي
استعمال
الأصلح
*
فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة طلبها
منه العباس، ليجمع له بين سقاية الحاج، وسدانة البيت، فأنزل الله هذه الآية، بدفع
مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال
المسلمين، أصلح من يجده لذلك العمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم {: من ولي من
أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله
ورسوله}. وفي رواية: {من قلد رجلا عملا على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه،
فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين} رواه الحاكم في صحيحه وروى بعضهم أنه من
قول عمر لابن عمر روي ذلك عنه. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من ولي من أمر
المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين
وهذا واجب عليه فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات، من نوابه على الأمصار، من
الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان، والقضاة، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر
والصغار والكبار، وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج
والصدقات، وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين. وعلى كل واحد من هؤلاء، أن يستنيب
ويستعمل أصلح من يجده، وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين، والمقرئين،
والمعلمين، وأمير الحاج، والبرد، والعيون الذين هم القصاد، وخزان الأموال، وحراس
الحصون، والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن، ونقباء العساكر الكبار
والصغار، وعرفاء القبائل والأسواق. فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين، من
هؤلاء وغيرهم، أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع، أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم
الرجل لكونه طلب الولاية، أو يسبق في الطلب.
*
بل ذلك سبب المنع، فإن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن قوما دخلوا
عليه فسألوه الولاية، فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه}. وقال لعبد الرحمن بن
سمرة: {يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها،
وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليه} أخرجاه في الصحيحين وقال صلى الله عليه وسلم: {من
طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه، أنزل الله
إليه ملكا يسدده} رواه أهل السنن. فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة
بينهما، أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو موافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس،
كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو
غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله
ورسوله والمؤمنين، ودخل فيما نهي عنه في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا
تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}. ثم قال: {واعلموا أنما
أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم}. فإن الرجل لحبه لولده، أو
لعتيقه، قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه، فيكون قد خان أمانته،
كذلك قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه، بأخذ ما لا يستحقه، أو محاباة من يداهنه في
بعض الولايات، فيكون قد خان الله ورسوله، وخان أمانته. ثم إن المؤدي للأمانة مع
مخالفة هواه، يثبته الله فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله
بنقيض قصده فيذل أهله، ويذهب ماله.
*
وفي ذلك، الحكاية المشهورة، أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما
أدرك فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين أقفرت أفواه بنيك
من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم وكان في مرض موته، فقال: أدخلوهم علي،
فأدخلوهم، بضعة عشر ذكرا، ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بني، والله
ما منعتكم حقا هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم
أحد رجلين: إما صالح، فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح، فلا أترك له ما يستعين
به على معصية الله، قوموا عني قال: فلقد رأيت ولده، حمل على مائة فرس في سبيل
الله، يعني أعطاها لمن يغزو عليها. قلت: هذا وقد كان خليفة المسلمين، من أقصى
المشرق، بلاد الترك، إلى أقصى المغرب، بلاد الأندلس وغيرها، ومن جزائر قبرص وثغور
الشام والعواصم كطرسوس ونحوها، إلى أقصى اليمن وإنما أخذ كل واحد من أولاده، من
تركته شيئا يسيرا، يقال: أقل من عشرين درهما - قال وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم
تركته بنوه، فأخذ كل واحد منهم ستمائة ألف دينار، ولقد رأيت بعضهم، يتكفف الناس -
أي يسألهم بكفه - وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان
والمسموعة عما قبله، ما فيه عبرة لكل ذي لب.
*
وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الولاية أمانة يجب أداؤها في
مواضع، مثل ما تقدم، ومثل {قوله لأبي ذر رضي الله عنه في الإمارة: إنها أمانة،
وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها}. رواه
مسلم. وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي قال: {إذا ضيعت
الأمانة، انتظر الساعة}. وقد أجمع المسلمون على معنى هذا، فإن وصي اليتيم، وناظر
الوقف، ووكيل الرجل في ماله، عليه أن يتصرف له بالأصلح فالأصلح، كما قال الله
تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} ولم يقل إلا بالتي هي حسنة وذلك
لأن الوالي راع على الناس بمنزلة راعي الغنم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
{كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته،
والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها، والولد راع في مال أبيه، وهو
مسئول عن رعيته، والعبد راع في مال سيده، وهو مسئول عن رعيته، ألا فكلكم راع وكلكم
مسئول عن رعيته} أخرجاه في الصحيحين وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما من راع
يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت، وهو غاش لها، إلا حرم الله عليه رائحة الجنة}
رواه مسلم. ودخل أبو مسلم الخولاني، على معاوية بن أبي سفيان، فقال: السلام عليك
أيها الأجير، فقالوا: قل السلام عليك: أيها الأمير، فقال السلام أيها الأجير
فقالوا: قل أيها الأمير فقال السلام عليك أيها الأجير فقالوا قل الأمير فقال
معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول فقال: إنما أنت أجير استأجرك رب هذه
الغنم لرعايتها، فإن أنت هنأت جرباها، وداويت مرضاها، وحبست أولاها على أخراها
وفاك سيدها أجرك، وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها، ولم تحبس أولاها على
أخراها عاقبك سيدها وهذا ظاهر الاعتبار، فإن الخلق عباد الله، الولاة نواب الله
على عباده، وهم وكلاء العباد على أنفسهم، بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، ففيهم
معنى الولاية والوكالة، ثم الولي والوكيل متى استناب في أموره رجلا، وترك من هو
أصلح للتجارة أو المقارب منه، وباع السلعة بثمن، وهو يجد من يشتريها بخير من ذلك
الثمن، فقد خان صاحبه، لا سيما إن كان بين من حاباه وبينه مودة أو قربة، فإن صاحبه
يبغضه ويذمه، أنه قد خان وداهن قريبه أو صديقه.
اختيار
الأمثل فالأمثل
*
إذا عرف هذا، فليس أن يستعمل إلا أصلح الموجود، وقد لا يكون في موجوده، من هو صالح
لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب يحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد
التام، وأخذه للولاية بحقها، فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب في هذا، وصار في هذا
الموضع من أئمة العدل والمقسطين عند الله، وإن اختل بعض الأمور بسبب من غيره، إذا
لم يمكن إلا ذلك، فإن الله يقول: {فاتقوا الله ما استطعتم} ويقول: {لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها}.
*
وقال في الجهاد: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين}. وقال: {يا
أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} فمن أدى الواجب
المقدور عليه فقد اهتدى: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا أمرتكم بأمر فأتوا
منه ما استطعتم} أخرجاه في الصحيحين، لكن إذا كان منه عجز ولا حاجة إليه، أو خيانة
عوقب على ذلك وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة
والأمانة، كما قال تعالى: {إن خير من استأجرت القوي الأمين} وقال صاحب مصر ليوسف
عليه السلام: {إنك اليوم لدينا مكين أمين}.
*
وقال تعالى في صفة جبريل: {إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم
أمين}. والقوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب،
وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع
القتال: من رمي وطعن وضرب، وركوب وكر وفر، ونحو ذلك، كما قال تعالى: {وأعدوا لهم
ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ارموا
واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا} وفي
رواية: {فهي نعمة جحدها} رواه مسلم والقوة في الحكم بين الناس، ترجع إلى العدل
الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.
*
والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس،
وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حكم على الناس، في قوله تعالى: {فلا
تخشوهم واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا} ، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك
هم الكافرون} ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {القضاة ثلاثة: قاضيان في
النار، وقاض في الجنة، فرجل علم الحق وقضى بخلافه، فهو في النار، ورجل قضى بين
الناس على جهل، فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى به، فهو في الجنة} رواه أهل
السنن والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما، سواء كان خليفة أو سلطانا،
أو نائبا، أو واليا، أو كان منصوبا ليقضي بالشرع، أو نائبا له، حتى يحكم بين
الصبيان في الخطوط، إذا تخايروا، هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وهو ظاهر.
قلة
اجتماع الأمانة والقوة في الناس
*
اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:
اللهم أشكو إليك جلد الفاجر، وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية، الأصلح بحسبها.
فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية:
وأقلهما ضررا فيها، فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور
فيها، على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أمينا، كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين
يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزو؟ فقال:
أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه،
لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيغزي مع القوي الفاجر. وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم {: إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر} وروي {بأقوام لا خلاق لهم}.
*
فإذا لم يكن فاجرا، كان أولى بإمارة الحرب مما هو أصلح منه في الدين، إذا لم يسد
مسده. ولهذا {كان النبي صلى الله عليه وسلم، يستعمل خالد بن الوليد على الحرب، منذ
أسلم، وقال: إن خالدا لسيف سله الله على المشركين} مع أنه أحيانا كان قد يعمل ما
ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه - مرة - رفع يديه إلى السماء وقال:
{اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد}. لما أرسله إلى خزيمة فقتلهم، وأخذ أموالهم
بنوع شبهة، ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة، حتى وداهم النبي
صلى الله عليه وسلم وضمن أموالهم، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب؛ لأنه كان
أصلح في هذا الباب من غيره، وفعل ما فعل بنوع تأويل.
*
وكان أبو ذر رضي الله عنه، أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا فقال له النبي صلى
الله عليه وسلم {يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن
على اثنين، ولا تولين مال يتيم}. رواه مسلم. نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية؛ لأنه
رآه ضعيفا. مع أنه قد روي: {ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء، أصدق لهجة من أبي
ذر}.
*
{وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل استعطافا
لأقاربه الذين بعثه إليهم، على من هم أفضل منه وأمر أسامة بن زيد، لأجل ثأر أبيه}.
ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة، مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه، في
العلم والإيمان. وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه
ما زال يستعمل خالدا في حرب أهل الردة، وفي فتوح العراق والشام، وبدت منه هفوات
كان له فيها تأويل، وقد ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها، بل
عتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة، في بقائه، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه؛
لأن المتولي الكبير، إذا كان خلقه يميل إلى اللين، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل
إلى الشدة، وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى
اللين، ليعتدل الأمر ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يؤثر استنابة خالد،
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يؤثر عزل خالد، واستنابة أبي عبيدة بن الجراح
رضي الله عنه؛ لأن خالدا كان شديدا، كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة كان لينا كأبي
بكر، وكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه، ليكون أمره معتدلا، ويكون بذلك من
خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو معتدل، حتى قال النبي صلى الله عليه
وسلم: {أنا نبي الرحمة أنا نبي الملحمة}. وقال: {أنا الضحوك القتال}. وأمته وسط
قال تعالى فيهم: {أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من
الله ورضوانا} وقال تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين}. ولهذا لما تولى
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما صارا كاملين في الولاية، واعتدل منهما ما كان ينسبان
فيه إلى أحد الطرفين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من لين أحدهما وشدة الآخر،
حتى قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: {اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر}.
*
وظهر من أبي بكر من شجاعة القلب، في قتال أهل الردة وغيرهم، ما برز به علي وعمر
وسائر الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين. وإن كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة
أشد، قدم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها، فأما استخراجها وحفظها، فلا بد فيه من
قوة وأمانة، فيولى عليها شاد قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته
وأمانته. وكذلك في إمارة الحرب، إذا أمر الأمير بمشورة أولي العلم والدين جمع بين
المصلحتين وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد، جمع بين عدد، فلا
بد من ترجيح الأصلح، أو تعدد المولى، إذا لم تقع الكفاية بواحد تام.
*
ويقدم في ولاية القضاء، الأعلم الأورع الأكفأ، فإن كان أحدهما أعلم، والآخر أورع،
قدم - فيما قد يظهر حكمه، ويخاف فيه الهوى الأورع، وفيما يدق حكمه، ويخاف فيه
الاشتباه: الأعلم. ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {إن الله يحب
البصر النافذ، عند ورود الشبهات، ويحب العقل عند حلول الشهوات} ويقدمان على
الأكفأ، إن كان القاضي مؤيدا تأييدا تاما، من جهة والي الحرب، أو العامة ويقدم
الأكفأ. إن كان القضاء يحتاج إلى قوة، وإعانة القاضي، أكثر من حاجة إلى مزيد العلم
والعلم، فإن القاضي المطلق، يحتاج أن يكون عالما عادلا قادرا بل وكذلك كل وال
للمسلمين، فأي صفة من هذه الصفات نقصت، ظهر الخلل بسببه، والكفاءة: إما بقهر ورهبة
وإما بإحسان ورغبة، وفي الحقيقة فلا بد منهما. وسئل بعض العلماء: إذا لم يوجد من
يولى القضاء، إلا عالم فاسق أو جاهل دين فأيهما يقدم؟
فقال:
إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد، قدم الدين وإن كانت الحاجة إلى الدين
أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم. وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين فإن الأئمة متفقون
على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا أهلا للشهادة واختلفوا في اشتراط العلم
هل يجب أن يكون مجتهدا، أو يجوز أن يكون مقلدا، أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل
كيفما تيسر؟ على ثلاثة أقوال وبسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع ومع أنه يجوز
تولية غير الأهل للضرورة، إذا كان أصلح الموجود، فيجب مع ذلك السعي في إصلاح
الأحوال، حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه، من أمور الولايات والإمارات ونحوها،
كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه، وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر
عليه، وكما يجب الاستعداد للجهاد، بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز،
فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بخلاف الاستطاعة في الحج ونحوها فإنه لا يجب
تحصيلها؛ لأن الوجوب هناك لا يتم إلا بها.
معرفة
الأصلح وكيفية تمامها
*
والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة
طريق المقصود، فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر. فلهذا لما غلب على أكثر
الملوك قصد الدنيا، دون الدين، قدموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد، وكان
من يطلب رئاسة نفسه، يؤثر تقديم من يقيم رئاسته، وقد كانت السنة أن الذي يصلي
بالمسلمين الجمعة والجماعة ويخطب بهم، هم أمراء الحرب، الذين هم نواب ذي السلطان
على الجند، ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة، قدمه
المسلمون في إمارة الحرب وغيرها.
*
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على حرب، كان هو الذي يؤمره للصلاة
بأصحابه، وكذلك إذا استعمل رجلا نائبا على مدينة، كما استعمل عتاب بن أسيد على
مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف وعليا ومعاذا، وأبا موسى على اليمن وعمرو بن
حزم على نجران كان نائبه هو الذي يصلي بهم، ويقيم فيهم الحدود وغيرها، مما يفعله
أمير الحرب، وكذلك خلفاؤه بعده، ومن بعدهم من الملوك الأمويين وبعض العباسيين،
وذلك؛ لأن أهم أمر الدين الصلاة والجهاد. ولهذا كانت أكثر الأحاديث، عن النبي صلى
الله عليه وسلم في الصلاة والجهاد، وكان إذا عاد مريضا، يقول: {اللهم اشف عبدك،
يشهد لك صلاة وينكأ لك عدوا}.
*
{ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن، قال: يا معاذ إن أهم أمرك
عندي الصلاة}. وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: إن أهم
أموركم عندي الصلاة، فمن حافظ عليها وحفظها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها من
عمله أشد إضاعة وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الصلاة عماد الدين}. فإذا
أقام المتولي عماد الدين، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وهي التي تعين الناس
على ما سواها من الطاعات، كما قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها
لكبيرة إلا على الخاشعين}. وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا
بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين} وقال لنبيه: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر
عليها لا نسألك رزقا، نحن نرزقك، والعاقبة للتقوى}. وقال تعالى: {وما خلقت الجن
والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو
القوة المتين} فالمقصود الواجب بالولايات:
إصلاح
دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا،
وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم. وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه،
وعقوبات المتعدين، فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه. ولهذا كان عمر بن الخطاب
يقول: إنما بعثت عمالي إليكم، ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، ويقيموا بينكم دينكم
فلما تغيرت الرعية من وجه، والرعاة من وجه، تناقضت الأمور، فإذا اجتهد الراعي في
إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان، كان من أفضل أهل زمانه، وكان من أفضل المجاهدين
في سبيل الله، فقد روي {يوم من إمام عادل، أفضل من عبادة ستين سنة} وفي مسند
الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {أحب الخلق إلى الله إمام
عادل، وأبغضهم إليه إمام جائر}.
*
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل
قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على
ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب
وجمال إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى
لا تعلم شماله ما تنفق يمينه}. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد، رضي الله عنه، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أهل الجنة ثلاثة: سلطان مقسط، ورجل رحيم القلب
بكل ذي قربى ومسلم، ورجل غني عفيف متصدق} وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال {: الساعي على الصدقة بالحق، كالمجاهد في سبيل الله} وقد قال الله تعالى، لما
أمر بالجهاد: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله}.
*
{وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية،
ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو
في سبيل الله} أخرجاه في الصحيحين. فالمقصود أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة
الله هي العليا، وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه، وهكذا قال الله
تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس
بالقسط} فالمقصود من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، أن يقوم الناس بالقسط، في حقوق
الله، وحقوق خلقه. ثم قال تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس،
وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب}. فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد، ولهذا كان
قوام الدين بالمصحف والسيف.
*
وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم، أن نضرب بهذا - يعني السيف - من عدل عن هذا - يعني المصحف} فإذا كان هذا هو
المقصود، فإنه يتوسل إليه بالأقرب فالأقرب، وينظر إلى الرجلين، أيهما كان أقرب إلى
المقصود ولي، فإذا كانت الولاية مثلا، إمامة صلاة فقط، قدم من قدمه النبي صلى الله
عليه وسلم، حيث قال: {يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء،
فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء
فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل في سلطانه، ولا يجلس في بيته على تكرمته إلا بإذنه} ،
رواه مسلم فإذا تكافأ رجلان، أو خفي أصلحهما أقرع بينهما، كما أقرع سعد بن أبي
وقاص بين الناس يوم القادسية، لما تشاجروا على الأذان، متابعة لقوله صلى الله عليه
وسلم {لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه
لاستهموا}. فإذا كان التقديم بأمر الله إذا ظهر، وبفعله - وهو ما يرجحه بالقرعة
إذا خفي الأمر - كان المتولي قد أدى الأمانات في الولايات إلى أهلها.
الباب الثاني
الأموال
وفيه
أربعة فصول الثاني من الأمانات والأموال كما قال تعالى في الديون: {فإن أمن بعضكم
بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته، وليتق الله ربه}.
ما
يدخل في باب الأموال
*
ويدخل في هذا القسم: الأعيان، والديون الخاصة والعامة، مثل رد الودائع، ومال
الشريك، والموكل، والمضارب، ومال الولي من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك، وكذلك وفاء
الديون من أثمان المبيعات، وبدل القرض، وصدقات النساء، وأجور المنافع ونحو ذلك وقد
قال تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا، إلا
المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل
والمحروم} إلى قوله: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}. وقال تعالى: {إنا أنزلنا
إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} أي لا
تخاصم عنهم.
*
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك} وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: {المؤمن من أمنه المسلمون على دمائهم وأموالهم، والمسلم
من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من
جاهد نفسه في ذات الله} وهو حديث صحيح بعضه في الصحيحين، وبعضه في سنن الترمذي،
وقال {: من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أداها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها
أتلفه الله} رواه البخاري. وإذا كان الله قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق،
ففيه تنبيه على وجوب أداء الغصب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم، وكذلك أداء
العارية وقد {خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقال في خطبته: العارية
مؤداة، والمنحة مردودة، الدين مقضي، والزعيم غارم، إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه،
فلا وصية لوارث}.
*
وهذا القسم يتناول الولاة والرعية، فعلى كل منهما: أن يؤدي إلى الآخر ما يجب أداؤه
إليه، فعلى السلطان ونوابه، أن يؤتوا كل ذي حق حقه، وعلى جباة الأموال، كأهل
الديوان أن يؤدوا إلى ذي السلطان، ما يجب إيتاؤه إليه، وكذلك على الرعية، الذين
يجب عليهم من الحقوق، وليس للرعية أن يطلبوا من ولاة الأموال ما لا يستحقونه
فيكونوا من جنس من قال الله تعالى فيه: {ومنهم من يلمزك في الصدقات، فإن أعطوا
منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون، ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله
وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله، إنا إلى الله راغبون إنما الصدقات
للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب والغارمين، وفي
سبيل الله، وابن السبيل فريضة من الله، والله عليم حكيم}.
*
ولا لهم أن يمنعوا السلطان ما يجب دفعه من الحقوق، وإن كان ظالما، كما أمر النبي
صلى الله عليه وسلم، لما ذكر جور الولاة، فقال: {أدوا إليهم الذي لهم، فإن الله
سائلهم عما استرعاهم} ففي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: {كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي، خلفه نبي، وإنه
لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا: فما تأمرنا؟ فقال: أوفوا ببيعة الأول
فالأول ثم أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم} وفيها عن ابن مسعود رضي الله
عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنكم سترون بعدي، أثرة أو أمورا
تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم، واسألوا الله
حقكم} وليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، فإنما
هم أمناء ونواب ووكلاء، ليسوا ملاكا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني
- والله - لا أعطي ولا أمنع أحدا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت} رواه البخاري عن
أبي هريرة عنه نحوه.
*
فهذا رسول رب العالمين، قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره، كما يفعل
ذلك المالك الذي أبيح له التصرف في ماله، وكما يفعل ذلك الملوك الذين يعطون من
أحبوا، وإنما هو عبد الله، يقسم المال بأمره، فيضعه حيث أمره الله تعالى. وهكذا
قال رجل لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين - لو وسعت على نفسك في النفقة، من مال
الله تعالى، فقال له عمر: أتدري ما مثلي ومثل هؤلاء؟ كمثل قوم كانوا في سفر،
فجمعوا منهم مالا، وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم، فهل يحل لذلك الرجل، أن يستأثر
عنهم من أموالهم؟. وحمل مرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مال عظيم من الخمس،
فقال: إن قوما أدوا الأمانة في هذا لأمناء، فقال له بعض الحاضرين: إنك أديت
الأمانة إلى الله تعالى، فأدوا إليك الأمانة، ولو رتعت رتعوا وينبغي أن يعرف أن
أولي الأمر، كالسوق، ما نفق فيه جلب إليه، هكذا قال عمر بن عبد العزيز رضي الله
عنه. فإن نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة، جلب إليه ذلك، وإن نفق فيه الكذب
والفجور والجور والخيانة، جلب إليه ذلك والذي على ولي الأمر، أن يأخذ المال من
حله، ويضعه في حقه، ولا يمنعه من مستحقه وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إذا
بلغه أن بعض نوابه ظلم، يقول: اللهم إني لم آمرهم أن يظلموا خلقك، أو يتركوا حقك.
أصناف
الأموال السلطانية: الغنيمة
*
(الغنيمة) الأموال السلطانية التي أصلها في الكتاب والسنة، ثلاثة أصناف: الغنيمة،
والصدقة، والفيء. فأما الغنيمة: فهي المال المأخوذ من الكفار بالقتال، ذكرها الله
في سورة الأنفال، التي أنزلها في غزوة بدر، وسماها أنفالا، أنها زيادة في أموال
المسلمين، فقال: {يسألونك عن الأنفال، قل الأنفال لله والرسول} إلى قوله: {واعلموا
أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن
السبيل} الآية، وقال: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا، واتقوا الله إن الله غفور
رحيم} وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: {أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض
مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل
لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس
عامة}.
*
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده
لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه
بقوم فهو منهم} رواه أحمد في المسند عن ابن عمر، واستشهد به البخاري. فالواجب في
المغنم تخميسه، وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى، وقسمة الباقي بين الغانمين،
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الغنيمة لمن شهد الوقعة وهم الذين شهدوا القتال،
قاتلوا أو لم يقاتلوا، ويجب قسمها بينهم بالعدل، فلا يحابي أحدا، لا لرياسته ولا
لنسبه ولا لفضله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه، يقسمونها.
*
وفي صحيح البخاري: {أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، رأى له فضلا على من دونه،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟} وفي مسند أحمد
عن سعد بن أبي وقاص، قال: {قلت: يا رسول الله: الرجل يكون حامية القوم، يكون سهمه
وسهم غيره سواء؟ قال: ثكلتك أمك ابن أم سعد، وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم} ؟.
وما زالت الغنائم بين الغانمين، في دولة بني أمية وبني العباس، لما كان المسلمون
يغزون الروم والترك والبربر، لكن يجوز للإمام أن ينفل من ظهر منه زيادة نكاية
كسرية تسرت من الجيش، أو رجل صعد حصنا عاليا ففتحه، أو حمل على مقدم العدو فقتله،
فهزم العدو ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه كانوا ينفلون لذلك.
وكان ينفل السرية في البداية الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس.
*
وقال بعضهم: إنه يكون من خمس الخمس، لئلا يفضل بعض الفاتحين على بعض، والصحيح أنه
يجوز من أربعة الأخماس، وإن كان فيه تفضيل بعضهم على بعض لمصلحة دينية، لا لهوى
نفس، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، وهذا قول فقهاء الشام وأبي
حنيفة، وأحمد، وغيرهم، وعلى هذا فقد قيل: إنه ينفل الربع والثلث بشرط وغير شرط،
وينفل الزيادة على ذلك الشرط، مثل أن يقول: من دلني على قلعة فله كذا، ومن جاء
برأس فله كذا، ونحو ذلك، وقيل: لا ينفل زيادة على الثلث، ولا ينفله إلا بالشرط،
وهذان قولان أحمد وغيره، وكذلك - على القول الصحيح للإمام أن يقول: من أخذ شيئا
فهو له، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد قال ذلك في غزوة بدر إذا رأى
ذلك مصلحة راجحة على المفسدة. وإذا كان الإمام يجمع الغنائم ويقسمها، لم يجز لأحد
أن يغل منها شيئا {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} فإن الغلول خيانة ولا تجوز
النهبة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها، فإذا ترك الإمام الجمع والقسمة،
وأذن في الأخذ إذنا جائزا، فمن أخذ شيئا بلا عدوان، حل له بعد تخميسه، وكل ما دل
على الإذن فهو إذن وأما إذا لم يأذن، أو أذن إذنا غير جائز، جاز للإنسان أن يأخذ
مقدار ما يصيبه بالقسمة، متحريا للعدل في ذلك.
*
ومن حرم على المسلمين جمع المغانم، والحال هذه، وأباح الإمام أن يفعل فيها ما
يشاء، فقد تقابل القولان تقابل الطرفين، ودين الله وسط. والعدل في القسمة: أن يقسم
للراجل سهم، وللفارس ذي الفرس العربي ثلاثة أسهم له، وسهمان لفرسه، هكذا قسم النبي
صلى الله عليه وسلم عام خيبر. ومن الفقهاء من يقول: للفارس سهمان، والأول الذي دلت
عليه السنة الصحيحة؛ ولأن الفرس يحتاج إلى مئونة نفسه وسائسه - ومنفعة الفارس به
أكثر من منفعة راجلين - ومنهم من يقول: يسوي بين الفرس العربي والهجين في هذا،
ومنهم من يقول: بل الهجين يسهم له سهم واحد، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، والفرس الهجين، الذي تكون أمه نبطية ويسمى البرذون - وبعضهم يسميه
التتري، سواء كان حصانا أو حصانا خصيا، ويسمى الإكديش أو رمكة، وهي؛ الحجر، كان
السلف يعدون للقتال الحسان، لقوته وحدته، وللإغارة والبيات الحجر؛ لأنه ليس لها
صهيل، ينذر العدو فيحترزون وللسير الخصي؛ لأنه أصبر على السير.
أصناف
الأموال السلطانية: الصدقات
*
(الصدقات) وأما الصدقات، فهي لمن سمى الله تعالى في كتابه، فقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم: {أن رجلا سأله من الصدقة، فقال: إن الله لم يرض في الصدقة، بقسم
نبي ولا غيره، ولكن جزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك}.
(فالفقراء والمساكين) يجمعها معنى الحاجة إلى الكفاية، فلا تحل الصدقة لغني، ولا
لقوي مكتسب (والعاملين عليها) هم الذين يجبونها ويحفظونها ويكتبونها، ونحو ذلك
(والمؤلفة قلوبهم) سنذكرهم - إن شاء الله تعالى - في مال الفيء.
*
(وفي الرقاب) يدخل فيه إعانة المكاتبين، وافتداء الأسرى، وعتق الرقاب، هذا أقوى
الأقوال فيها. (والغارمين) هم الذين عليهم ديون، لا يجدون وفاءها، فيعطون وفاء
ديونهم، ولو كان كثيرا، إلا أن يكونوا غرموه في معصية الله تعالى، فلا يعطون حتى
يتوبوا (وفي سبيل الله) وهم الغزاة، الذين لا يعطون من مال الله ما يكفيهم لغزوهم،
فيعطون ما يغزون به، أو تمام ما يغزون به، من خيل وسلاح ونفقة وأجرة، والحج من
سبيل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (وابن السبيل) هو المجتاز من بلد إلى
بلد.
أصناف
الأموال السلطانية: الفيء
*
(الفيء) وأما الفيء، فأصله ما ذكره الله تعالى في سورة الحشر، التي أنزلها الله في
غزوة بني النضير، بعد بدر، من قوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم، فما
أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء
قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه
وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب للفقراء المهاجرين الذين
أخرجوا من ديارهم وأموالهم، يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله
أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا
يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح
نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا
الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم}.
*
فذكر سبحانه وتعالى المهاجرين والأنصار، والذين جاءوا من بعدهم على ما وصف، فدخل
في الصنف الثالث كل من جاء على هذا الوجه إلى يوم القيامة، كما دخلوا في قوله
تعالى: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم}. وفي قوله:
{والذين اتبعوهم بإحسان} وفي قوله: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم}
ومعنى قوله: {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} أي ما حركتم ولا سقتم خيلا ولا
إبلا.
*
ولهذا قال الفقهاء: إن الفيء هو ما أخذ من الكفار بغير قتال؛ لأن إيجاف الخيل
والركاب هو معنى القتال، وسمي فيئا؛ لأن الله أفاءه على المسلمين، أي رده عليهم من
الكفار، فإن الأصل أن الله تعالى، إنما خلق الأموال إعانة على عبادته؛ لأنه إنما
خلق الخلق لعبادته، فالكافرون به أباح أنفسهم التي لم يعبدوه بها، وأموالهم التي
لم يستعينوا بها على عبادته، لعباده المؤمنين الذين يعبدونه، وأفاء إليهم ما
يستحقونه، كما يعاد على الرجل ما غصب من ميراثه، وإن لم يكن قبضه قبل ذلك، وهذا
مثل الجزية التي على اليهود والنصارى والمال الذي يصالح عليه العدو، أو يهدونه إلى
سلطان المسلمين كالحمل الذي يحمل من بلاد النصارى ونحوهم، وما يؤخذ من تجار أهل
الحرب، وهو العشر، ومن تجار أهل الذمة إذا اتجروا من غير بلادهم، وهو نصف العشر.
*
هكذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ، وما يؤخذ من أموال من ينقض العهد منهم،
والخراج الذي كان مضروبا في الأصل عليهم، وإن كان قد صار بعضه على بعض المسلمين.
ثم إنه يجتمع من الفيء جميع الأموال السلطانية التي لبيت مال المسلمين كالأموال
التي ليس لها مالك معين، مثل من مات من المسلمين وليس له وارث معين، وكالغصوب،
والعواري، والودائع التي عذر معرفة أصحابها، وغير ذلك من أموال المسلمين، العقار
والمنقول فهذا ونحوه مال المسلمين. وإنما ذكر الله تعالى في القرآن الفيء فقط؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يموت على عهده ميت، إلا وله وارث معين لظهور
الأنساب في أصحابه، وقد مات مرة رجل من قبيلة فدفع ميراثه إلى أكبر تلك القبيلة،
أي أقربهم نسبا إلى جدهم، وقد قال بذلك طائفة من العلماء، كأحمد في قول منصوص
وغيره، ومات رجل لم يخلف إلا عتيقا له، فدفع ميراثه إلى عتيقه، وقال بذلك طائفة من
أصحاب أحمد وغيرهم، ودفع ميراث رجل إلى رجل من أهل قريته وكان صلى الله عليه وسلم
هو وخلفاؤه يتوسعون في دفع ميراث الميت، إلى من بينه وبينه نسب كما ذكرناه ولم يكن
يأخذ من المسلمين إلا الصدقات، وكان يأمرهم أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم
وأنفسهم، كما أمر الله به في كتابه.
*
ولم يكن للأموال المقبوضة والمقسومة، ديوان جامع، على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبي بكر رضي الله عنه، بل كان يقسم المال شيئا فشيئا، فلما كان في زمن عمر
بن الخطاب رضي الله عنه كثر المال واتسعت البلاد، وكثر الناس فجعل ديوان العطاء
للمقاتلة وغيرهم، وديوان الجيش - في هذا الزمان - مشتمل على أكثره، وذلك الديوان
هو أهم دواوين المسلمين. وكان للأمصار دواوين الخراج والفيء وما يقبض من الأموال،
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يحاسبون العمال على الصدقات والفيء وغير
ذلك، فصارت الأموال في هذا الزمان وما قبله ثلاثة أنواع: نوع يستحق الإمام قبضه
بالكتاب والسنة والإجماع، كما ذكرناه، ونوع يحرم أخذه بالإجماع، كالجنايات التي
تؤخذ من أهل القرية لبيت المال؛ لأجل قتيل قتل بينهم، وإن كان له وارث، أو على حد
ارتكب - وتسقط عنه العقوبة بذلك، وكالمكوس التي لا يسوغ وضعها اتفاقا، ونوع فيه
اجتهاد وتنازع كمال من له ذو رحم - وليس بذي فرض ولا عصبة، ونحو ذلك.
الظلم
الواقع من الولاة والرعية
*
وكثيرا ما يقع الظلم من الولاة والرعية: هؤلاء يأخذون ما يحل، وهؤلاء يمنعون ما
يجب، كما قد يتظالم الجند والفلاحون، وكما قد يترك بعض الناس من الجهاد ما يجب،
ويكنزه الولاة من مال الله، مما لا يحل كنزه، وكذلك العقوبات على أداء الأموال،
فإنه قد يترك منها ما يباح أو يجب، وقد يفعل ما لا يحل. والأصل في ذلك: أن كل من
عليه مال يجب أداؤه، كرجل عنده وديعة، أو مضارة، أو شركة، أو مال لموكله، أو مال
يتيم، أو مال وقف، أو مال لبيت المال، أو عنده دين، هو قادر على أدائه، فإنه إذا
امتنع من أداء الحق الواجب من عين أو دين، وعرف أنه قادر على أدائه، فإنه يستحق
العقوبة، حتى يظهر المال أو يدل على موضعه فإذا عرف المال، وصير في الحبس فإنه
يستوفي الحق من المال، ولا حاجة إلى ضربه به، وإن امتنع من الدلالة على مال ومن
الإيفاء، ضرب حتى يؤدي الحق أو يمكن من أدائه، وكذلك لو امتنع من أداء النفقة
الواجبة عليه مع القدرة عليها؛ لما روى عمر بن الشريد عن أبيه، عن النبي صلى الله
عليه وسلم، أنه قال: {لي الواجد يحل عرضه وعقوبته.} رواه أهل السنن.
*
وقال صلى الله عليه وسلم {مطل الغني ظلم} أخرجاه في الصحيحين واللذي هو المطل
والظالم يستحق العقوبة والتعزير وهذا أصل متفق عليه: أن كل من فعل محرما، أو ترك
واجبا، استحق العقوبة، فإن لم تكن مقدرة بالشرع كان يجتهد تعزيرا فيه ولي الأمر،
فيعاقب الغني المماطل بالحبس، فإن أصر عوقب بالضرب، حتى يؤدي الواجب، وقد نص على
ذلك الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم رضي الله عنهم عنهم ولا أعلم فيه
خلافا. وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما {أن النبي صلى
الله عليه وسلم لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء والسلاح، سأل بعض اليهود،
وهو سعية عم حيي بن أخطب، عن كنز مال حيي بن أخطب فقال: أذهبته النفقات والحروب،
فقال: العهد قريب، والمال أكثر من ذلك فدفع النبي صلى الله عليه وسلم سعية إلى
الزبير، فسمه بعذاب، فقال: قد رأيت حييا يطوف؛ في خربة هاهنا، فذهبوا فطافوا،
فوجدوا المسك في الخربة} ، وهذا الرجل كان ذميا، والذمي لا تحل عقوبته إلا بحق،
وكذلك كل من كتم ما يجب إظهاره من دلالة واجبة ونحو ذلك، يعاقب على ترك الواجب.
وجوه
صرف الأموال
*
وأما المصارف فالواجب: أن يبتدئ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين، كعطاء
من يحصل للمسلمين به منفعة عامة. فمنهم المقاتلة: الذين هم أهل النصرة والجهاد،
وهم أحق الناس بالفيء فإنه لا يحصل إلا بهم، حتى اختلف الفقهاء في مال الفيء: هل
هو مختص بهم، أو مشترك في جميع المصالح؟ وأما سائر الأموال السلطانية فلجميع
المصالح وفاقا، إلا ما خص به نوعا، كالصدقات والمغنم.
القسم
الثاني الحدود والحقوق وفيه بابان
حدود
الله وحقوقه وفيه ثمانية فصول
أمثلة من تلك الحدود والحقوق
*
أمثلة من تلك الحدود والحقوق، وواجب الولاة نحوها وأما قوله تعالى: {وإذا حكمتم
بين الناس أن تحكموا بالعدل} فإن الحكم بين الناس، يكون في الحدود والحقوق، وهما
قسمان: فالقسم الأول: الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين بل منفعتها لمطلق
المسلمين، أو نوع منهم. وكلهم محتاج إليها، وتسمى حدود الله، وحقوق الله مثل: حد
قطاع الطريق، والسراق، والزناة ونحوهم، ومثل: الحكم في الأمور السلطانية، والوقوف
والوصايا التي ليست لمعين، فهذه من أهم أمور الولايات، ولهذا قال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه: " لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير
المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال يقام بها الحدود، وتأمن بها
السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء ". وهذا القسم يجب على الولاة
البحث عنه، وإقامته من غير دعوى أحد به وكذلك تقام الشهادة فيه، من غير دعوى أحد
به، وإن كان الفقهاء قد اختلفوا في قطع يد السارق: هل يفتقر إلى مطالبة المسروق
بماله؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره، لكنهم يتفقون على أنه لا يحتاج إلى مطالبة
المسروق، وقد اشترط بعضهم المطالبة بالمال، لئلا يكون للسارق فيه شبهة.
عقوبة
المحاربين وقطاع الطرق
*
عقوبة المحاربين، وقطاع الطريق الذين يعترضون الناس، في الطرقات ونحوها؛ ليغصبوهم
المال، مجاهرة من الأعراب والتركمان والأكراد والفلاحين وفسقة الجند أو مردة
الحاضرة أو غيرهم، قال الله تعالى فيهم: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله
ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو
ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}. وقد روى الشافعي
رحمه الله في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه في قطاع الطريق - إذا قتلوا وأخذوا
المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا
المال ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا
مالا نفوا من الأرض وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي وأحمد وهو قريب من قول
أبي حنيفة رحمه الله. ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم، فيقتل من رأى قتله مصلحة،
وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيها، ويقطع من رأى قطعه مصلحة.
*
وإن كان لم يأخذ المال، مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال كما أن منهم من يروي
أنه إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا، والأول قول الأكثر، فمن كان من
المحاربين قد قتل، فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء.
ذكره ابن المنذر ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول، بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة
بينهما أو خصومة أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة، فإن هذا دمه لأولياء المقتول، إن
أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدية؛ لأنه قتله لغرض خاص. وأما
المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس، فضررهم عام بمنزلة السراق فكان قتلهم حد
الله. وهذا متفق عليه بين الفقهاء حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل مثل أن
يكون القاتل حرا والمقتول عبدا، أو القاتل مسلما، والمقتول ذميا أو مستأمنا. فقد
اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة؟ والأقوى أنه يقتل لأنه قتل للفساد العام حدا،
كما يقطع إذا أخذ أموالهم، وكما يحبس بحقوقهم.
واجب
المسلمين إذا طلب السلطان المحاربين وقطاع الطريق فامتنعوا عليه وهذا كله إذا قدر
عليهم
*
فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه، لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه، فإنه يجب
على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء، حتى يقدر عليهم كلهم، ومتى لم ينقادوا إلا
بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم قوتلوا، وإن أفضى إلى ذلك، سواء كانوا قد قتلوا أو لم
يقتلوا. ويقتلون في القتال كيفما أمكن، في العنق وغيره. ويقاتل من قاتل معهم ممن
يحميهم ويعينهم فهذا قتال، وذاك إقامة حد، وقتال هؤلاء أوكد من قتل الطوائف
الممتنعة عن شرائع الإسلام فإن هؤلاء قد تحزبوا لفساد النفوس والأموال، وهلاك
الحرث والنسل، ليس مقصودهم إدامة دين ولا ملك، وهؤلاء كالمحاربين الذين يأوون إلى
حصن، أو مغارة أو رأس جبل، أو بطن واد، ونحو ذلك، يقطعون الطريق على من مر بهم،
وإذا جاءهم جند ولي الأمر تطلبهم للدخول في طاعة المسلمين والجماعة؛ لإقامة
الحدود، قاتلوهم ودفعوهم مثل الأعراب الذين يقطعون الطريق على الحاج أو غيره من
الطرقات أو الجبلة الذين يعتصمون برءوس الجبال أو المغارات؛ لقطع الطريق.
كالأحلاف
الذين تحالفوا لقطع الطريق بين الشام والعراق ويسمون ذلك النهيضة، فإنهم يقاتلون
كما ذكرنا. لكن قتالهم ليس بمنزلة قتال الكفار، إذا لم يكونوا كفارا، ولا تؤخذ
أموالهم، إلا أن يكونوا أخذوا أموال الناس بغير حق، فإن عليهم ضمانها فيؤخذ منهم
بقدر ما أخذوا، وإن لم تعلم عين الآخر، وكذلك لو علم عينه، فإن الردء والمباشر
سواء كما قلناه، لكن إذا عرف عينه كان قرار الضمان عليه، ويرد ما يؤخذ منه على
أرباب الأموال، فإن تعذر الرد عليهم كان لمصالح المسلمين، من رزق الطائفة المقاتلة
لهم وغير ذلك. بل المقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود ومنعهم من الفساد،
فإذا جرح الرجل منهم جرحا مثخنا، لم يجهز عليه حتى يموت، إلا أن يكون قد وجب عليه
القتل، وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه، إلا أن يكون عليه حد، أو نخاف عاقبته.
حد
السرقة
*
وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: {والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من
بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} ولا يجوز بعد ثبوت الحد
بالبينة، أو الإقرار، تأخيره، ولا مال يفتدى به ولا غيره، بل تقطع يده في الأوقات
المعظمة وغيرها، فإن إقامة الحد من العبادات، كالجهاد في سبيل الله فينبغي أن يعرف
أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده فيكون الوالي شديدا في إقامة الحد، لا تأخذه
رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق، بكف الناس عن المنكرات؛ لإشفاء
غيظه، وإرادة العلو على الخلق، به بمنزلة الوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كف عن
تأديب ولده، كما تشير به الأم رقة ورأفة لفسد الولد، وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحا
لحاله، مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب، وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض
الدواء الكريه، وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم، وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك،
بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه، وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به
الراحة.
*
فهكذا شرعت الحدود وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها متى كان قصده صلاح
الرعية والنهي عن المنكرات بجلب المنفعة لهم، ودفع المضرة عنهم، وابتغى بذلك وجه
الله تعالى، وطاعة أمرهألان الله له القلوب، وتيسرت له أسباب الخير، وكفاه العقوبة
البشرية، وقد يرضي المحدود، إذا أقام عليه الحد. وأما إذا كان غرضه العلو عليهم،
وإقامة رياسته؛ ليعظموه أو ليبذلوا له ما يريد من الأموال، انعكس عليه مقصوده
ويروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن يلي الخلافة، كان نائبا للوليد بن
عبد الملك على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ساسهم سياسة صالحة، فقدم
الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب، فسأل أهل المدينة عن عمر كيف هيبته فيكم؟
قالوا: ما نستطيع أن ننظر إليه. قال: كيف محبتكم له؟ قالوا: هو أحب إلينا من أهلنا
قال: فكيف أدبه فيكم؟ قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة قال: هذه هيبته،
وهذه محبته، وهذا أدبه، هذا أمر من السماء. وإذا قطعت يده حسمت واستحب أن تعلق في
عنقه.
حد
الزنا
*
وأما الزاني: فإن كان محصنا، فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت، كما {رجم النبي صلى
الله عليه وسلم ماعز بن مالك الأسلمي، ورجم الغامدية ورجم اليهودية ورجم غير
هؤلاء} ، ورجم المسلمون بعده، واختلف العلماء: هل يجلد قبل الرجم مائة؟ على قولين
في مذهب أحمد وغيره وإن كان غير محصن، فإنه يجلد مائة جلدة بكتاب الله، ويغرب عاما
بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعض العلماء لا يرى وجوب التغريب. ولا
يقام عليه الحد حتى يشهد عليه أربعة شهداء، أو يشهد على نفسه أربع شهادات، عند
كثير من العلماء أو أكثرهم، ومنهم من يكتفي بشهادته على نفسه مرة واحدة ولو أقر
على نفسه، ثم رجع فمنهم من يقول: يسقط عنه الحد، ومنهم من يقول: لا يسقط والمحصن
من وطئ، وهو حر مكلف؛ لمن تزوجها نكاحا صحيحا في قبلها، ولو مرة واحدة، وهل يشترط
أن تكون الموطوءة مساوية للواطئ في هذه الصفات على قولين للعلماء. وهل تحصن
المراهقة للبالغ وبالعكس؟. فأما أهل الذمة، فإنهم محصنون أيضا عند أكثر العلماء،
كالشافعي وأحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين عند باب مسجده، وذلك
أول رجم كان في الإسلام.
حد
شرب الخمر
*
وأما حد الشرب: فإنه ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين،
فقد روى أهل السنن، عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال: {من شرب الخمر
فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه}
وثبت عنه أنه جلد الشارب غير مرة، وهو وخلفاؤه والمسلمون بعده. والقتل عند أكثر
العلماء منسوخ وقيل هو محكم يقال: هو تعزير يفعله الإمام عند الحاجة. وقد ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه ضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين} وضرب أبو
بكر رضي الله عنه أربعين، وضرب عمر في خلافته ثمانين، وكان علي رضي الله عنه يضرب
مرة أربعين ومرة ثمانين فمن العلماء من يقول: يجب ضرب الثمانين، ومنهم من يقول:
الواجب أربعون، والزيادة يفعلها الإمام عند الحاجة، إذا أدمن الناس الخمر، أو كان
الشارب ممن لا يرتدع بدونها ونحو ذلك. فأما مع قلة الشاربين وقرب أمر الشارب فتكفي
الأربعون، وهذا أوجه القولين، وهو قول الشافعي، وأحمد رحمهما الله، في إحدى
الروايتين عن أحمد وقد كان عمر رضي الله عنه - لما كثر الشرب - زاد فيه النفي وحلق
الرأس مبالغة في الزجر عنه، فلو عزر الشارب مع الأربعين بقطع خبزه أو عزله عن
ولايته كان حسنا، وإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه عن بعض نوابه، أنه يتمثل
بأبيات في الخمر فعزله.
المعاصي
التي ليس فيها حد مقدر وبيان الحد الشرعي
*
وأما المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة، كالذي يقبل الصبي والمرأة
الأجنبية، أو يباشر بلا جماع، أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة، أو يقذف الناس
بغير الزنا، أو يسرق من غير حرز، أو شيئا يسيرا، أو يخون أمانته، كولاة أموال بيت
المال أو الوقف، ومال اليتيم ونحو ذلك، إذا خانوا فيها، كالولاة والشركاء، إذا
خانوا، أو يغش في معاملته، كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك، أو يطفف
المكيال والميزان، أو يشهد الزور، أو يلقن شهادة الزور، أو يرتشي في حكمه، أو يحكم
بغير ما أنزل الله، أو يعتدي على رعيته، أو يتعزى بعزاء الجاهلية، أو يلبي داعي
الجاهلية، إلى غير ذلك من أنواع المحرمات فهؤلاء يعاقبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا،
بقدر ما يراه الوالي، على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته، فإذا كان كثيرا زاد
في العقوبة، بخلاف ما إذا كان قليلا، وعلى حسب حال المذنب، فإذا كان من المدمنين
على الفجور، زيد في عقوبته، بخلاف المقل من ذلك، وعلى حسب كبر الذنب وصغره، فيعاقب
من يتعرض لنساء الناس وأولادهم، ما لا يعاقبه من لم يتعرض إلا لمرأة واحدة، أو صبي
واحد وليس لأقل التعزير حد، بل هو بكل ما فيه إيلام الإنسان، من قول وفعل وترك
قول، وترك فعل، فقد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له، وقد يعزر بهجره وترك
السلام عليه حتى يتوب إذا كان ذلك هو المصلحة.
كما
{هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الثلاثة الذين خلفوا} وقد يعزر بعزله عن
ولايته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعزرون بذلك، وقد يعزر بترك
استخدامه في جند المسلمين، كالجندي المقاتل، إذا فر من الزحف، فإن الفرار من الزحف
من الكبائر، وقطع خبزه نوع تعزير له، وكذلك الأمير إذا فعل ما يستعظم فعزله من
الإمارة تعزير له. وكذلك قد يعزر بالحبس، وقد يعزر بالضرب، وقد يعزر بتسويد وجهه
وإركابه على دابة مقلوبا، كما روي عن عمر بن الخطاب، أنه أمر بذلك في شاهد الزور،
فإن الكاذب سود الوجه، فسود وجهه، وقلب الحديث، فقلب ركوبه. وأما أعلاه، فقد قيل:
" لا يزاد على عشرة أسواط ". وقال كثير من العلماء: لا يبلغ به الحد ثم
هم على قولين: منهم من يقول: " لا يبلغ به أدنى الحدود ": لا يبلغ بالحر
أدنى حدود الحر، وهي الأربعون أو الثمانون؛ ولا يبلغ بالعبد أدنى حدود العبد، وهم
العشرون أو الأربعون.
*
وقيل: بل لا يبلغ بكل منهما حد العبد. ومنهم من يقول: لا يبلغ بكل ذنب حد جنسه وإن
زاد على جنس آخر، فلا يبلغ بالسارق من غير حرز قطع اليد، وإن ضرب أكثر من حد
القاذف، ولا يبلغ بمن فعل ما دون الزنا حد الزنا، وإن زاد على حد القاذف. كما روي
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " أن رجلا نقش على خاتمه، وأخذ بذلك من بيت
المال، فأمر به فضرب مائة ضربة ثم في اليوم الثاني مائة ضربة ثم ضربه في اليوم
الثالث مائة ضربة وروي عن الخلفاء الراشدين، في رجل وامرأة وجدا في لحاف: "
يضربان مائة " وروي {عن النبي صلى الله عليه وسلم، في الذي يأتي جارية امرأته،
إن كانت أخلتها له: جلد مائة، وإن لم تكن أخلتها له: رجم} وهذه الأقوال في مذهب
أحمد وغيره، والقولان الأولان في مذهب الشافعي، وغيره.
جهاد
الكفار القتال الفاصل
*
العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان: أحدهما: عقوبة المقدر
عليه، من الواحد والعدد كما تقدم. والثاني: عقاب الطائفة الممتنعة، كالتي لا يقدر
عليها إلا بقتال فاصل، هذا هو جهاد الكفار أعداء الله ورسوله، فكل من بلغه دعوة
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له، فإنه يجب
قتاله {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.
*
وكان الله - لما بعث نبيه، وأمره بدعوة الخلف إلى دينه لم يأذن في قتل أحد على ذلك
ولا قتاله، حتى هاجر إلى المدينة، فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى: {أذن للذين
يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا
أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات
ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين
إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر
ولله عاقبة الأمور}.
*
ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن
تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا
تعلمون} وأكد الإيجاب، وعظم أمر الجهاد، في عامة السور المدنية، وذم التاركين له،
ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب، فقال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم
وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب
إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي
القوم الفاسقين} وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم
يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} قال تعالى:
{فإذا أنزلت سورة محكمة، وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك
نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا
الله لكان خيرا لهم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم}.
*
وهذا كثير في القرآن، وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله، في سورة الصف التي يقول فيها: {يا
أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله
وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم
ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز
العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين}. وكقوله تعالى:
{أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في
سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا
وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون
يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله
عنده أجر عظيم}.
*
وقوله تعالى: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على
المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل
الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}. وقال تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا
نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا
إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنينولا ينفقون نفقة صغيرة ولا
كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} فذكر ما
يولده عن أعمالهم، وما يباشرونه من الأعمال، والأمر بالجهاد، وذكر فضائله في
الكتاب والسنة، أكثر من أن يحصر، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان، وكان باتفاق
العلماء أفضل من الحج والعمرة، ومن الصلاة التطوع، والصوم التطوع، كما دل عليه
الكتاب والسنة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رأس الأمر الإسلام، وعموده
الصلاة، وذروة سنامه الجهاد}. وقال {إن في الجنة لمائة درجة، ما بين الدرجة
والدرجة، كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله} متفق عليه.
*
وقال {: من اغبر قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار} رواه البخاري وقال صلى
الله عليه وسلم: {رباط يوم وليلة، خير من صيام شهر وقيامه. وإن مات أجري عليه عمله
الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان} رواه مسلم. وفي السنن: {رباط يوم
في سبيل الله، خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل} ، وقال صلى الله عليه وسلم
{عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله} قال
الترمذي حديث حسن وفي مسند الإمام أحمد {حرس ليلة في سبيل الله، أفضل من ألف ليلة
يقام ليلها، ويصام نهارها}. وفي الصحيحين: {أن رجلا قال: يا رسول الله، أخبرني
بشيء يعدل الجهاد في سبيل الله، قال: لا تستطيع. قال: أخبرني. قال: هل تستطيع إذا
خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر، وتقوم ولا تفتر؟ قال: لا. قال: فذلك الذي يعدل
الجهاد}. وفي السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إن لكل أمة سياحة، وسياحة أمتي
الجهاد في سبيل الله}. وهذا باب واسع، لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها، مثل ما ورد
فيه، فهو ظاهر عند الاعتبار، فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا،
ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة، فإنه مشتمل من محبة الله -
تعالى، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر والزهد، وذكر
الله وسائر أنواع الأعمال، على ما لا يشتمل عليه عمل آخر. والقائم به من الشخص
والأمة بين إحدى الحسنيين دائما، إما النصر والظفر، وإما الشهادة والجنة، ثم إن
الخلق لا بد لهم من محيا وممات، ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في
الدنيا والآخرة، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما، فإن من الناس من يرغب في
الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا، مع قلة منفعتها، فالجهاد أنفع فيهما من كل
عمل شديد، وقد يرغب في ترقية نفسه حتى يصادفه الموت، فموت الشهيد أيسر من كل ميتة،
وهي أفضل الميتات.
الحدود
والحقوق التي لآدمي معين وفيه ثمانية فصول
النفوس
*
وأما الحدود والحقوق التي لآدمي معين فمنها النفوس، قال الله تعالى: {قل تعالوا
أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم
من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم
إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا
وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم
تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم
وصاكم به لعلكم تتقون}.
*
وقال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} إلى قوله: {ومن يقتل مؤمنا
متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} وقال
تعالى {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في
الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} وفي الصحيحين
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في
الدماء} فالقتل ثلاثة أنواع: أحدهما العمد المحض، وهو أن يقصد من يعلمه معصوما بما
يقتل غالبا، سواء كان يقتل بحده كالسيف ونحوه، أو بثقله كالسندان وكوذين القصار،
أو بغير ذلك كالتحريق والتغريق والإلقاء من مكان شاهق، والخنق، وإمساك الخصيتين،
حتى تخرج الروح، حتى يموت، وسقي السموم، ونحو ذلك في الأفعال فهذا رغم الوجه فيه
القود، وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل، فإن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا
وإن أحبوا أخذوا الدية وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله.
*
قال الله - تعالى {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد
جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} ، قيل في التفسير: لا يقتل
غير قاتله، وروي عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله: {من أصيب
بدم أو خبل - الخبل الجراح - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: فإن أراد الرابعة فخذوا
على يديه: أن يقتل أو يعفو، أو يأخذ الدية فمن فعل شيئا من ذلك فعاد فإن له جهنم
خالدا مخلدا فيها أبدا} ، رواه أهل السنن قال الترمذي حديث حسن صحيح، فمن قتل بعد
العفو أو أخذ الدية فهو أعظم جرما ممن قتل ابتداء، حتى قال بعض العلماء: "
إنه يجب قتله حدا ولا يكون أمره لأولياء المقتول " قال تعالى: {كتب عليكم
القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه
شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد
ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}.
*
قال العلماء: إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ، حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتل
وأولياءه، وربما لم يرضوا بقتل القاتل، بل يقتلون كثيرا من أصحاب القاتل كسيد
القبيلة ومقدم الطائفة، فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء، وتعدى هؤلاء في
الاستيفاء كما كان يفعله أهل الجاهلية الخارجون عن الشريعة في هذه الأوقات، من
الأعراب والحاضرة وغيرهم. وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيما أشرف من المقتول،
فيفضى ذلك إلى أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل، وربما حالف
هؤلاء قوما واستعانوا بهم، وهؤلاء قوما فيفضي إلى الفتن والعداوات العظيمة. وسبب
ذلك خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلى فكتب الله علينا القصاص وهو
المساواة والمعادلة في القتلى وأخبر أن فيه حياة، فإنه يحقن دم غير القاتل من
أولياء الرجلين، وأيضا علم من يريد القتل أنه يقتل كف عن القتل.
*
وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله
تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم
يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده}
رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من أهل السنن فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
المسلمين تتكافأ دماؤهم - أي تتساوى وتتعادل - فلا يفضل عربي على عجمي، ولا قرشي
أو هاشمي على غيره من المسلمين، ولا حر أصلي على مولى عتيق، ولا عالم أو أمير، على
أمي أو مأمور. وهذا متفق عليه بين المسلمين، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية وحكام
اليهود فإنه كان بقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم صنفان من اليهود: قريظة
والنضير، وكانت تتفضل على قريظة في الدماء، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
في ذلك، وفي حد الزنا، فإنهم كانوا قد غيروه من الرجم إلى التحميم وقالوا إن حكم
نبيكم بذلك كان لكم حجة، وإلا فأنتم قد تركتم حكم التوراة فأنزل الله تعالى: {يا
أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم
تؤمن قلوبهم} إلى قوله: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن
يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} إلى قوله: {فلا
تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف
بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص}.
*
فبين - سبحانه وتعالى - أنه سوى بين نفوسهم، ولم يفضل منهم نفسا على أخرى، كما
كانوا يفعلونه إلى وله: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب
ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل
جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} إلى قوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله
حكما لقوم يوقنون}. فحكم الله - سبحانه - في دماء المسلمين أنها كلها سواء، خلاف
ما عليه الجاهلية وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس في البوادي والحواضر، إنما
هي البغي، ترك العدل فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها الأخرى دما أو مالا، أو
تعلو عليهم بالباطل ولا تنصفها، ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق، فالواجب في
كتاب الله الحكم بين الناس في الدماء والأموال وغيرها بالقسط الذي أمر الله به
ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية، وإذا أصلح مصلح بينهما، فليصلح
بالعدل كما قال الله - تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما
فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت
فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا
بين أخويكم} وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول، فإنه أفضل لهم كما قال
تعالى: {والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له}. قال أنس رضي الله عنه: {ما رفع
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو}. رواه أبو
داود وغيره وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: {ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع
أحد لله إلا رفعه الله} وهذا الذي ذكرناه من التكافؤ، هو في المسلم الحر، مع
المسلم الحر، فأما الذمي فجمهور العلماء: على أنه ليس بكفء للمسلم، كما أن
المستأمن الذي يقدم من بلاد الكفار رسولا أو تاجرا ونحو ذلك، ليس بكفء له وفاقا.
ومنهم من يقول: بل هو كفء له، وكذلك النزاع في قتل الحر بالعبد.
الجراح
*
والقصاص في الجراح أيضا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع شرط المساواة، فإذا قطع يده
اليمنى من مفصل، فله أن يقطع يده كذلك، وإذا قلع سنه، فله أن يقلع سنه، وإذا شجه
في رأسه أو وجهه، فأوضح العظم، فله أن يشجه كذلك وإذا لم تمكن المساواة: مثل أن
يكسر له عظما باطنا، أو يشجه دون الموضحة، فلا يشرع القصاص، بل تجب الدية المحدودة
أو الأرش.
الأعراض
*
والقصاص في الأعراض مشروع أيضا: وهو أن الرجل إذا لعن رجلا أو دعا عليه، فله أن
يفعل به كذلك. ، وكذلك إذا شتمه شتيمة لا كذب فيها، والعفو أفضل. قال الله تعالى:
{وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن
انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} قال النبي صلى الله عليه وسلم:
{المستبان: ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم} ويسمى هذا الانتصار،
والشتيمة التي لا كذب فيها مثل الإخبار عنه بما فيه من القبائح أو تسميته بالكلب
أو الحمار ونحو ذلك فأما إن افترى عليه، لم يحل له أن يفتري عليه ولو كفره أو فسقه
بغير حق لم يحل له أن يكفره أو يفسقه بغير حق ولو لعن أباه أو قبيلته، أو أهل بلده
ونحو ذلك، لم يحل له أن يتعدى على أولئك، فإنهم لم يظلموه، وقال الله تعالى:
{يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا
تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} فأمر الله المسلمين ألا يحملهم بغضهم للكفار على
ألا يعدلوا. وقال: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} فإن كان العدوان عليه في العرض محرما
لحقه، بما يلحقه من الأذى جاز القصاص فيه بمثله، كالدعاء عليه ما دعاه، وأما إذا
كان محرما لحق الله - تعالى، كالكذب، لم يجز بحال، وهكذا قال كثير من الفقهاء: إذا
قتله بتحريق، أو تغريق، أو خنق أو نحو ذلك، فإنه يفعل به كما فعل، ما لم يكن الفعل
محرما في نفسه كتجريع الخمر واللواط به، ومنهم من قال: لا قود عليه إلا بالسيف،
والأولى أشبه بالكتاب والسنة والعدل.
الفرية
ونحوها
*
وإذا كانت الفرية ونحوها لا قصاص فيها، ففيها العقوبة بغير ذلك فمنه حد القذف
الثابت في الكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم
يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم
الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}. فإذا رمى الحر
محصنا بالزنا أو اللواط فعليه حد القذف، وهو ثمانون جلدة، وإن رماه بغير ذلك عوقب
تعزيرا. وهذا الحد يستحقه المقذوف، فلا يستوفى إلا بطلبه باتفاق الفقهاء فإن عفا
عنه سقط عند جمهور العلماء، لأن المغلب فيه حق الآدمي كالقصاص والأموال. وقيل: لا
يسقط تغليبا لحق الله لعدم المماثلة كسائر الحدود، وإنما يجب القذف، إذا كان
المقذوف محصنا، وهو المسلم الحر العفيف.
الأبضاع
*
ومن الحقوق الأبضاع، فالواجب الحكم بين الزوجين بما أمر الله - تعالى به، من إمساك
بمعروف أو تسريح بإحسان، فيجب على كل من الزوجين أن يؤدي إلى الآخر حقوقه، بطيب
نفس وانشراح صدر فإن للمرأة على الرجل حقا في ماله، وهو الصداق والنفقة بالمعروف،
وحقا في بدنه، وهو العشرة والمتعة، بحيث لو آلى منها استحقت الفرقة بإجماع
المسلمين، وكذلك لو كان مجبوبا أو عنينا لا يمكنه جماعها فلها الفرقة، ووطؤها واجب
عليه عند أكثر العلماء. وقد قيل: إنه لا يجب اكتفاء بالتباعث الطبيعي، والصواب:
أنه واجب كما دل عليه الكتاب والسنة والأصول. وقد {قال النبي صلى الله عليه وسلم
لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه - لما رآه يكثر الصوم والصلاة -: إن لزوجك عليك
حقا} ثم قيل: يجب عليه وطؤها كل أربعة أشهر مرة، وقيل: يجب وطؤها بالمعروف، على
قدر قوته وحاجتها، كما تجب النفقة بالمعروف كذلك، وهذا أشبه. وللرجل عليها أن
يتمتع بها متى شاء، ما لم يضر بها، أو يشغلها عن واجب، فيجب عليها أن تمكنه كذلك
ولا تخرج من منزله إلا بإذنه أو بإذن الشارع واختلف الفقهاء هل عليها خدمة المنزل
كالفرش والكنس والطبخ ونحو ذلك؟ فقيل: يجب عليها، وقيل: لا يجب وقيل: يجب التخفيف
منه.
الأحوال
*
وأما الأحوال فيجب الحكم بين الناس فيها بالعدل كما أمر الله ورسوله، مثل قسم
المواريث بين الورثة، على ما جاء به الكتاب والسنة. وقد تنازع المسلمون في مسائل
من ذلك، وكذلك في المعاملات من المبايعات والإجارات والوكالات والمشاركات والهبات
والوقوف والوصايا ونحو ذلك من المعاملات المتعلقة بالعقود والقبوض، فإن العدل فيها
هو قوام العالمين، لا تصلح الدنيا والآخرة إلا به. فمن العدل فيها ما هو ظاهر،
يعرفه كل أحد بعقله، كوجوب تسليم الثمن على المشتري، وتسليم المبيع على البائع
للمشتري، وتحريم تطفيف المكيال والميزان، ووجوب الصدق والبيان، وتحريم الكذب
والخيانة والغش، وأن جزاء القرض الوفاء والحمد.
*
ومنه ما هو خفي، جاءت به الشرائع أو شريعتنا - أهل الإسلام - فإن عامة ما نهى عنه
الكتاب والسنة من المعاملات، يعود إلى تحقيق العدل والنهي عن الظلم دقه وجله: مثل
أكل المال بالباطل وجنسه من الربا والميسر، وأنواع الربا والميسر التي نهى عنها
النبي صلى الله عليه وسلم مثل: بيع الغرر، وبيع حبل الحبلة، وبيع الطير في الهواء،
والسمك في الماء، والبيع إلى أجل غير مسمى، وبيع المصراة، وبيع المدلس، والملامسة،
والمنابذة، والمزابنة والمحاقلة والنجش. وبيع الثمر قبل بدو صلاحه، وما نهي عنه من
أنواع المشاركات الفاسدة، كالمخابرة، بزرع بقعة بعينها من الأرض. ومن ذلك ما قد
ينازع فيه المسلمون لخفائه واشتباهه، فقد يرى هذا العقد والقبض صحيحا عدلا، وإن
كان غيره يرى فيه جورا يوجب فساده، وقد قال الله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم
تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}. والأصل في هذا، أنه لا يحرم على
الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها، إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه، كما
لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله، إلا ما دل الكتاب والسنة على
شرعه، إذ الدين ما شرعه الله، والحرام ما حرمه الله، بخلاف الذين ذمهم الله، حيث
حرموا من دون الله ما لم يحرمه الله، وأشركوا بما ما لم ينزل به سلطانا، وشرعوا
لهم من الدين ما لم يأذن به الله، اللهم وفقنا لأن نجعل الحلال ما حللته، والحرام
ما حرمته، والدين ما شرعته.
المشاورة
*
لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم
فقال تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن
الله يحب المتوكلين}. وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {لم يكن أحد أكثر
مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم}. وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه
لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه
وحي، من أمر الحروب، والأمور الجزئية وغير ذلك، فغيره صلى الله عليه وسلم أولى
بالمشورة. وقد أثنى الله على المؤمنين بذلك في قوله: {وما عند الله خير وأبقى
للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا
هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم
ينفقون}.
*
وإذا استشارهم، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب أو سنة رسوله أو إجماع
المسلمين فعليه اتباع ذلك ولا طاعة في خلاف ذلك، وإن كان عظيما في الدين والدنيا.
قال الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}
وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه، ووجه رأيه
فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به، كما قال تعالى: {فإن تنازعتم
في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن
تأويلا}.
وجوب
اتخاذ الإمارة
*
يجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها، فإن
بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند
الاجتماع من رأس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم {إذا خرج ثلاثة في سفر
فليؤمروا أحدهم} ، رواه أبو داود، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. وروى الإمام أحمد
في المسند عن عبد الله بن عمرو، أن النبي قال: {لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من
الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم} فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع
القليل العارض في السفر، تنبيها على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله - تعالى -
أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة. وكذلك سائر ما
أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود
لا تتم إلا بالقوة والإمارة ولهذا روي: {أن السلطان ظل الله في الأرض} ويقال:
" ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان ".
*
والتجربة تبين ذلك؛ ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما
يقولون: " لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان " وقال النبي صلى
الله عليه وسلم: {إن الله ليرضى لكم ثلاثة: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن
تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم} ، رواه
مسلم. وقال: {ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر،
ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط بهم من ورائهم}. رواه أهل السنن. وفي
الصحيح عنه أنه قال: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا
رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم}.
*
فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها،
بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء
الرياسة أو المال بها. وقد روى كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
{ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال أو الشرف لدينه}
قال الترمذي حديث حسن صحيح فأخبر أن حرص المرء على المال والرياسة، يفسد دينه، مثل
أو أكثر من إرسال الذئبين الجائعين لزريبة الغنم. وقد أخبر الله - تعالى - عن الذي
يؤتى كتابه بشماله، أنه يقول: {ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه}. وغاية مريد
الرياسة أن يكون كفرعون، وجامع المال أن يكون كقارون وقد بين الله - تعالى - في
كتابه حال فرعون وقارون، فقال تعالى: {أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان
عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله
بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق} وقال تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين
لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}.
*
فإن الناس أربعة أقسام: القسم الأول: يريدون العلو على الناس، والفساد في الأرض هو
معصية الله، وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون، كفرعون وحزبه، وهؤلاء هم شر الخلق
قال الله تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح
أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين}. وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة من في قلبه
مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من في قلبه ذرة من إيمان. فقال رجل: يا رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنا. أفمن الكبر ذاك؟
قال: لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} فبطر الحق، دفعه
وجحده، وغمط الناس، احتقارهم وازدراؤهم وهذا حال من يريد العلو والفساد. والقسم
الثاني: الذين يريدون الفساد، بلا علو، كالسراق المجرمين من سملة الناس. والقسم
الثالث: يريد العلو بلا فساد، كالذين عندهم دين، يريدون أن يعلوا به على غيرهم من
الناس. القسم الرابع: فهم أهل الجنة الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، مع
أنهم قد يكونون أعلى من غيرهم كما قال الله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم
الأعلون إن كنتم مؤمنين} وقال تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون
والله معكم ولن يتركم أعمالكم} وقال: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}. فكم ممن
يريد العلو ولا يزيده ذلك إلا سفولا، وكم ممن جعل من الأعلين وهو لا يريد العلو
ولا الفساد، وذلك لأن إرادة العلو على الخلق ظلم، لأن الناس من جنس واحد، فإرادة
الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته، ظلم، ومع أنه ظلم، فالناس يبغضون من يكون
كذلك ويعادونه، لأن العادل منهم لا يحب أن يكون مقهورا لنظيره، وغير العادل منهم
يؤثر أن يكون هو القاهر، ثم إنه مع هذا لا بد له - في العقل والدين من أن يكون
بعضهم فوق بعض كما قدمناه، كما أن الجسد لا يصلح إلا برأس.
*
قال تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما
آتاكم}. وقال تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق
بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} فجاءت الشريعة بصرف السلطان والمال في سبيل
الله، فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك في سبيله،
كان ذلك صلاح الدين والدنيا. وإن انفرد السلطان عن الدين، أو الدين عن السلطان
فسدت أحوال الناس، وإنما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته، بالنية والعمل
الصالح، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله لا ينظر إلى صوركم
ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم}. ولما غلب على كثير من ولاة
الأمور إرادة المال والشرف، صاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان وكمال الدين، ثم منهم من
غلب الدين، وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك، ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك،
فأخذه معرضا عن الدين، لاعتقاده أنه مناف لذلك، وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل،
لا في محل العلو والعز، وكذلك لما غلب على كثير من أهل الديانتين العجز عن تكميل
الدين، والجزع لما قد يصيبهم في إقامته من البلاء، استضعف طريقتهم واستذلها من رأى
أنه لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها.
*
وهاتان السبيلان الفاسدتان - سبيل من انتسب إلى الدين، ولم يكمله بما يحتاج إليه
من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب، ولم يقصد
بذلك إقامة الدين هما سبيل المغضوب عليهم والضالين، الأولى للضالين النصارى،
والثانية للمغضوب عليهم اليهود وإنما الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم
من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هي سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
وسبيل خلفائه وأصحابه، ومن سلك سبيلهم، وهم السابقون الأولون من المهاجرين
والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري من
تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم. فالواجب على المسلم أن يجتهد
في ذلك بحسب وسعه، فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله، وإقامة ما يمكنه من دينه،
ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من ترك المحرمات، لم يؤاخذ بما يعجز عنه،
فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار.
*
ومن كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد، ففعل ما يقدر عليه، من النصيحة
بقلبه، والدعاء للأمة، ومحبة الخير، وفعل ما يقدر عليه من الخير، لم يكلف ما يعجز
عنه، فإن قوام الدين الكتاب الهادي، والحديث الناصر كما ذكره الله - تعالى - فعلى
كل أحد الاجتهاد في إيثار القرآن والحديث لله ولطلب ما عنده مستعينا بالله في ذلك،
ثم الدنيا تخدم الدين، كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: " يا بن آدم أنت
محتاج إلى نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من
الآخرة مر بنصيبك من الدنيا، فانتظمها انتظاما، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك
نصيبك من الآخرة، وأنت من الدنيا على خطر. ودليل ذلك ما رواه الترمذي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: {من أصبح والآخرة أكبر همه جمع له شمله وجعل غناه في قلبه
وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل
فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له}. وأصل ذلك في - قوله تعالى:
{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن
الله هو الرزاق ذو القوة المتين}. فنسأل الله العظيم أن يوفقنا وسائر إخواننا
المسلمين، لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين.
نهاية
الكتاب.