اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي))([1]).
المفردات:
الناصية: مقدمة الرأس .
ماضٍ: نافذ .
الهمُّ: المكروه الوارد على القلب في الأمر المستقبل .
الحزن: وهو عكس الهمّ: هو المكروه الوارد على القلب على أمر قد مضى([2]) .
الشرح:
قوله: ((اللَّهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك)): اعتراف العبد بأنه مخلوق للَّه تعالى، مملوك له، هو وآباؤه وأمهاته، ابتداءً من أبويه المقربين، وانتهاءً إلى آدم وحواء، فالكل مماليك للَّه عز وجل خالقهم، ومدبّر أمورهم، وشؤونهم، لا غنى لهم عنه طرفة عين، وليس لهم من يلوذون ويعوذون به سواه، وهذا فيه كمال التذلّل والخضوع والاعتراف بالعبودية للَّه تعالى؛ لأنه لم يكتف بقوله: ((إني عبدك)) بل زاد فيه ((ابن عبدك ابن أمتك)) دلالة على التأكيد والمبالغة في التذلّل، والعبودية للَّه تعالى؛ لأن من ملك رجلاً ليس مثل من ملكه مع أبويه))([3]) .
وهذا يدلنا على أهمية الأدعية الشرعية لكمالها في ألفاظها ومعانيها، وجلال مقاصدها ومدلولاتها .
قوله: ((ناصيتي بيدك)): ((أي مقدمة الرأس بيد اللَّه تعالى، يتصرّف فيه كيف يشاء، ويحكم فيه بما يريد، لا معقب لحكمه، ولا رادّ لقضائه))([4]) .
قوله: ((ماض فيَّ حكمك)): يتناول الحكمين: الحكم الديني الشرعي، والحكم القدري الكوني، فكلاهما ماضيان في العبد شاء أم أبى، لكن الحكم الكوني لا يمكن مخالفته، وأما الحكم الشرعي ((الأوامر والمنهيات)) فقد يخالفه العبد، ويكون متعرضاً للعقوبة.
قوله: ((عدلٌ فيَّ قضاؤك)): إقرارٌ من العبد بأن ((جميع أقضيته سبحانه وتعالى عليه، من كل الوجوه: من صحة وسقم، وغنى وفقر، ولذة وألم، وحياة وموت، وعقوبة وتجاوز، وغير ذلك عدلٌ لا جور فيه، ولا ظلم بأي وجهٍ من الوجوه . قال تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾([5])))([6]).
ثم شرع في الدعاء بعد إظهار غاية التذلل والخضوع لربه تعالى، وهذا من أدب السائلين، وهذه الحالة أقرب إلى إجابة السؤال ولا سيما إذا كان المسؤول منه كريماً، ومن أكرم من اللَّه تبارك وتعالى الذي لا يوازيه أيُّ كريم ولا يعادله أيّ نظير، إذا تضرع إليه عبده، وتذلل له، وأظهر الخضوع والخشوع ثم سأل حاجة ينفذها في ساعته على ما هو اللائق لكرمه وجوده([7]) .
قوله: ((أسألك بكل اسم هو لك)): أتوسّل إليك بكل اسم من أسمائك الحسنى، وهذا هو أعظم أنواع التوسّل إلى اللَّه تعالى بالدعاء، كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾([8]).
قوله: ((سمَّيت به نفسك)): أي اخترته لنفسك الذي يليق بكمالك وجلالك.
قوله: ((أو أنزلته في كتابك)): في كتبك المنزلة على رسلك، يتعبّد به عبادك ويسألونك ويدعونك به، وأنا أحدهم.
قوله: ((أو علمته أحداً من خلقك)): من الأنبياء والملائكة، ومنهم محمّد صلى الله عليه وسلم كما في حديث الشفاعة الطويل الذي يقول فيه: ((…فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي، وَلَيْسَ يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي… ))([9]) .
((أو استأثرت به في علم الغيب عندك)): أي خصصت به نفسك في علم الغيب، فلم يطّلع عليه أحد، وهذا كلّه تقسيم لقوله: ((بكل اسم هو لك))، وهذا يدلّ على أن أسماءه تعالى الحسنى غير محصورة في عدد معين، فجعل أسماءه تعالى ثلاثة أقسام:
قسم سمَّى به نفسه، فأظهره لمن شاء من أنبيائه ورسوله، وملائكته أو غيرهم، ولم يُنزله في كتابه.
وقسم أنزله في كتابه، فتعرَّف به إلى عباده.
وقسم استأثر به في علم الغيب عنده لا يطّلع عليه أحد، فتضمّن هذا الدعاء المبارك التوسّل إليه تعالى بأسمائه الحسنى كلّها، ما علم العبد منها، وما لم يعلم، والعلم بأسماء اللَّه وصفاته أصل لكل العلوم؛ لأنه كُلَّما كان عظيم العلم والمعرفة باللَّه تعالى وأسمائه وصفاته زادت خشية العبد لربه، وعظمت مراقبته وعبوديته له جلّ وعلا، وازداد بُعداً عن الوقوع في سخطه ومعصيته؛ ولهذا كان أعظم ما يطرد الهمّ والحزن والغمّ أن يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته، وأن يعمر قلبه بذكرها، والثناء بها عليه([10])، واستحضار معانيها، فبعد أن قدَّم جملاً من الإقرار بالتذلل والخضوع له تعالى، والإيمان بكمال حكمه وقضائه وعدله، وهو توسل إليه بعمله الصالح، وتوسل إليه كذلك بأفعاله، ثم توسل إليه بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العُلا، فجمع ثلاثة أنواع من التوسّلات الجليلة مقدمة بين يدي دعائه دلالة على أهمية هذه الوسائل في إعطاء ما يسأله العبد ربه عز وجل فقال: ((أن تجعل القرآن ربيع قلبي)): أي: فرح قلبي، وسروره، وخُصَّ ((الربيع)) دون فصول السنة؛ لأن الإنسان يرتاح قلبه في الربيع من الزمان، ويميل إليه ويخرج من الهمّ والغمّ، ويحصل له النشاط والسرور والابتهاج))([11]) .
((فتضمّنت هذه الدعوة سؤال اللَّه تعالى أن يجعل قلبه مرتاحاً إلى القرآن، مائلاً إليه، راغباً في تدبره))([12]).
وهذا يدلّ على أن القرآن هو الشفاء الناجح لمن تأمله وتدبّره، وتمسّك به .
قوله: ((ونور صدري)): أي تشرق في قلبي بأنوار المعرفة، فأميّز الحق والباطل.
قوله: ((وجلاء حزني، وذهاب همّي)): الجلاء هو: الانكشاف، أي انكشاف حزني وهمّي؛ لأن القرآن شفاء، كما قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾([13])، ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾([14])؛ لأنه كلام اللَّه تعالى الذي ليس كمثله شيء، وأي شيءٍ يقف أمام هذا الكلام العظيم، فالقرآن الذي هو أفضل الذكر، كاشف للحزن، ومُذهب للهمّ لمن يتلوه بالليل والنهار بتدبّر وتفكّر، فليس شيء مثله مُذهب للأوهام والأحزان، والأمراض النفسية العصرية، وفيه من نعيم القلب، وأنسه، ولذّاته، وراحته ما لا يوصف، وعلى قدر تحصيل العبد لكتاب اللَّه تعالى: تلاوةً، وحفظاً، وفهماً، ومدارسةً، وعملاً ينال من السعادة والراحة والطمأنينة والعافية في البدن والنفس ما لا يحصيه إلا اللَّه تعالى.
ولعلّك يا عبد اللَّه بعد أن رأيت عظمة معاني هذا الدعاء المبارك، وما تضمّن من مقاصد ومعانٍ جليلة، علمت معنى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم ((ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن))([15]).