قيمة كلِّ إنسان بقيمة ما صنع في حياته، وإذا أردت أن تعرف أعظم شيءٍ يُفعل في الحياة، فابحث عن أعظم شيء في حياة أعظم رجل، وأيُّ حياة في تاريخ البشرية هي أعظم من حياة محمد ؟ وهل أشرقت على البشرية شمس حياةٍ أعظم من شمس حياته؟ ولقد كان أعظم شيء في حياته هي الصلاة؛ ولهذا قال: "جعلت قرة عيني في الصلاة".
ولا ريب أنَّ حياةَ كلِّ إنسان بأسرها، هي في الحقيقة مجموع الساعات التي قضاها في الصلوات، وغيرها من أوقات الحياة لا قيمة له، إلاَّ ما كان تابعًا لهذا الوقت، وثمرة من ثماره؛ ولهذا جاءت النصوص أنَّ كلَّ الأعمال الصالحة إنما هي ثمرات الصلاة، فلولا الصلاة ما انقادت الجوارح لعمل صالح، ولا اجتنبت العمل الطالح، ولهذا جاء في الحديث "أول ما يحاسب به العبد يوم
القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له عملُه، وإن فسدت فسد عملُه".
ومن هنا كانت الصلوات لا يكفر الخطايا مثلها، كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]. وحديث: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهنَّ الخطايا". وفي الحديث "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن...".
وما جُعل للوضوء ما جُعل من تكفير الذنوب، إلاَّ من أجل أنه مفتاح الصلاة، وما جُعلت خطوات المصلي إلى المسجد كفارةً لخطاياه، إلاَّ لأنها خطوات إلى الصلاة، كما في حديث مسلم: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط".
وقد ذكر بعض العلماء أنَّ سبب كراهية النبيِّ السمر بعد العشاء؛ لأنَّ الصلوات إلى العشاء تكفّر خطايا اليوم، فكَرِه أن يكونَ في حديثه بعد العشاء ما قد يدنّس النفس بالذنب قبل أن ينام، كذا أراد أن يعلِّم أمته، وهو -بأبي وأمي- العبدُ الشكور، الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أتقى الناس، وأعبدهم لله، وأنزههم عن الخطايا.
ومما ورد عن السلف في فقه هذا المعنى: عن إبراهيم بن بشار قال: سمعت سفيان يقول: (تكلمت بشيء بعد العشاء الآخرة، فقلت: ما ينبغي لي أن أنام على هذا، فقمت فتوضأت وصليت ركعتين، واستغفرت، وما قلت هذا لأزكي نفسي، ولكن ليعمل به بعضكم).
وعن القاسم بن أبي أيوب قال: (كان سعيد بن جبير يصلي بعد العشاء الآخرة أربع ركعات، فأكلمه وأنا معه في البيت، فما يراجعني الكلام).
فصلاتك -أيها العبد- هي حياتك، وينقص من فائدة حياتك بقدر ما أنقصت من صلاتك، ويُزاد من بركة حياتك بقدر ما تهتم بصلاتك، وما سوى ذلك تابع، والتابع تابع، فتمسك بهذه فإنها مفتاح التوفيق الأكبر.
وهذه هي الحقيقة الدينية العظمى التي تخفى على أغلب الناس، وهي بالنسبة للأمَّة كما هي بالنسبة للفرد سواء؛ فالأمة كلَّما أقامت الصلاة أُقيم لها أمرُها، والعكس بالعكس، ولهذا جاء الربط في النصوص بين إقامة النظام السياسي وإقامة الصلاة، وعلق النبيُّ تغيير النظام بتركه إقامة الصلاة، والسبب أنه إذا أضاع الصلاة فهو لما سواها أضيع، وإذا أضاع الدين فلا قيمة لنظام يضيع الدين، والحال أنَّ الولايات السياسية برمتها لم تشرع في الإسلام إلاّ لإقامة الدين، فإذا ضيِّع الدين فقدت شرعيتها!!
ولهذا أيضًا جاء الربط بين وحدة الأمة وعنايتها في الصلاة، ومن هنا أخبر النبيُّ كما في حديث الجماعة، أن اختلاف المصلين في صفوفهم يثمر اختلافَ وجوههم، قال النووي: (معناه يوقع بينهم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب). وفي الحديث أنه كان يسوِّي صفوف الصحابة في الصلاة كأنما يسوّي به القداح، وذلك أنَّ أي اختلاف في الصدر الأول سيورث في الأمة كلَّها.
وكان الخلفاء في التاريخ الإسلامي يستهلُّون خلافتهم بالخطبة وإقامة الصلاة في الناس، ولم يزل المسلمون أوَّل ما يفعلونه في الأرض المفتوحة بناء المساجد لإقامة الصلاة، وذلك إلى عهد الفتوحات العثمانية التي بنت المساجد إلى وسط أوربا، وتراها اليوم كلّما توغلتَ من تركيا إلى يوغسلافيا السابقة، شاهدةً على حقيقة أنَّ عزّة الأمة كانت مرتبطة بعنايتها بإقامة المساجد للصلاة.
وما كان يمنع الجيوش الإسلامية عن غزو قرية أو مدينة إلاّ سماع الأذان، كما هي سيرة النبي .. وكان أوَّل شيء عمله في المدينة عندما هاجر إليها، بناء المساجد لإقامة الصلاة. ومن هنا انطلقت أوّل وأعظم دولة في الإسلام بركةً على العالمين، وكانت هي استجابة لدعاء إبراهيم عند المسجد الحرام عندما بنى البيت العتيق أوَّل مسجد وُضع للناس، وهو الذي منْ تحته مُدَّت الأرض؛ ولهذا جعلت الأرض مسجدًا وطهورًا للأمّة الكاملة أكثر الأمم صلاة وأتمها.
ولأنَّ تاريخ انتشار حضارة الإسلام مرتبط بالمساجد، قال هؤلاء الأمريكيون المعارضون لبناء المسجد في نيويورك: إنَّ دلالته مأخوذة من تاريخ المسلمين، فقد كانوا يبنون المساجد في مواضع انتصاراتهم!!
وبهذا يتبيّن أنَّ الفرد، والأمة، والنظام السياسي الذي به تتجلّى شخصيتها الحضارية، كلّها مرتبطة بالصلاة، فهي حياة الفرد، وهي حياة الأمة، وهي حياة حضارتها.
فلا جرم إذن جُعلت عمود الدين، وجُعل تاركها كافرًا، وجاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة، ولا أصرح من هذه الآية القرآنية التي قال الله تعالى فيها: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة: 31، 32].
ولهذا صارت الصلاة هي الفريضة الوحيدة التي لا تسقط بحال، وما سقطت عن الحائض إلاّ تعظيمًا لقدر الصلاة، حتى لا تفعل هذه العبادة العظيمة بغير طهارة. ولهذا أيضًا فهي لا يجوز أداؤُها إلاَّ بالطهارة الكاملة في المكان واللباس والجسد، ثم إنها العبادة الوحيدة التي يُؤمر المصلي فيها ألاّ ينشغل بغيرها، بجوارحه وقلبه، فلا يفعل شيء سوى أفعال الصلاة حتى ينتهي منها، وهذا بخلاف سائر العبادات.
ولا تكاد تقرأ صفحة من المصحف إلاّ وتجد فيها ذكر الصلاة، وعادة القرآن عندما يختصر الرسالة المحمدية يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، ويقول: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، ونظائرها.
وعندما تأتي أعظم مقامات الاتصال بين الله -تعالى- ورسله وهو كلامه سبحانه، يأمرهم بالصلاة في ذلك المقام، كما قال لموسى : {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} [طه: 13، 14].
وكذلك نبيُّنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- عندما سمع كلام ربه من وراء الحجاب ليلة المعراج، فأمره بالصلاة، ولم يجعلها وحيًا ينزل به جبريل ، بل استدعى محمدًا إلى العرش المجيد، وأوقفه وراء الحجاب عند الحضرة الإلهية المقدسة، فأعطاه منشور الصلاة مباشرة؛ وذلك لعظم شأنها، ولهذا السبب جعلت الصلاة هي النور، كما في الحديث "الصلاة نور"؛ لأنها أخذت من بؤرة النور، عند نور الحجاب، من النور الإلهي مباشرة من غير واسطة.
ولهذا كان أوفر العلماء حظًّا من نور البصيرة أكثرهم صلاة، ولا تجد جيلاً أكثر صلاة من القرن الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، وتلك هي القرون المفضلة وفيها أئمة الدين، وأعلام الهدى الذي سار على دربهم من خلفهم.
وعندما آمن السحرة بموسى علموا أن أعظم ما جاء به الصلاة، فأعلنوا توبتهم بالسجود: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ *قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء: 46- 48].
وعندما نطق روح الله عيسى ، كان أول ما قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 30، 31].
وعندما وضع إبراهيم زوجته هاجر، وابنه إسماعيل ، وهي بذرة أمة التوحيد، قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ} [إبراهيم: 37].
وعندما دعا إبراهيم الذي وفي قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40].
ولهذا عندما وصف الله -تعالى- إسماعيل قال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا *وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم: 54، 55].
ولما وصف ذرية إبراهيم قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} [الأنبياء: 72، 73].
ولذلك عندما يهب الله -تعالى- صفوة عباده الأنبياء، يهبهم صفوة عباده، أيّ يجعل النبوة في ذريتهم أيضًا، يكون ذلك في الصلاة، كما قال -تعالى- في قصة زكريا ويحيى: {فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران: 39].
وكان أعداء الرُّسُل يعلمون أن الصلوات هي أعظم ما جاءت به الرسُل بعد الشهادة بالتوحيد؛ ولهذا قالوا في قصة شعيب مثلاً: {يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [هود: 87].
وعندما وصف الله -تعالى- هؤلاء الصفوة من الأولين والآخرين قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].
وعندما وصف الانحراف فيمن بعدهم، بدأ بذكر إضاعة الصلاة: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]؛ يعني واديًا في جهنم.
وفي يوم القيامة، يفرق الله بين المؤمنين والمنافقين بالأمر بالسجود، وهو أجلُّ أفعال الصلاة؛ ولهذا اشتقت المساجد من السجود، وصار المصلِّي أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد؛ ولهذا جعل السجود مثنى في الصلوات بخلاف القيام والركوع، وعند ذلك الموقف المهيب يسجد أهل الإيمان، ويسقط أهل النفاق على وجوههم.
وكان نبيُّنا يفخر بأنه أوّل من يؤذن له بالسجود يوم القيامة تحت عرش الرحمن؛ لأنه أعظم شرف، ولهذا يُعطى أرفع مكانة على كلِّ الأولين والآخرين بعد ذلك السجود، وهو المقام المحمود.
والصلاة هي سبب بقاء السموات والأرض، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41].
وهذا الإمساك بسبب ما ذكره في هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].
فالله -تعالى- يمسك السموات والأرض من أجل صلاة الخلق، صلاة الملائكة في السماء، كما قال تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 165، 166]، وكما في الحديث "أطّت السماء وحق لها أن تئط، والذي نفس محمد بيده، ما فيها موضع شبر إلاّ وفيها جبهة ملك ساجد يسبح الله بحمده"؛ وصلاة المخلوقات كلُّها في الأرض، كما قال تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41].
فالكون كلُّه في صلاة دائمة، ولهذا تبقى الحياة، وتبقى الدنيا؛ ولهذا فرضت علينا الصلوات الخمس، لنكون نحن أيضًا في صلاة دائمة، في كل أوقات اليوم، فنحن بين صلاة أدّيناها، وبين صلاة ننتظرها؛ ولذا تقول الملائكة لله عن المسلمين: "أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون". فنصلي مع الكون لله تعالى، فتبقى الحياة وتستمر.
وهذا هو السرِّ الذي جعلنا خير أمة أخرجت للناس، وفجّر فينا طاقات الخير كله، فملأنا الأرض نورًا، وهدى، ورحمة، وإحسانًا.. إنها هي الأمة الوحيدة التي تصلي مع الكون كلِّه.
وهذا هو السر الذي جعلنا متخلفين بعد أن قصرنا في أمانة الصلاة؛ ولهذا ورد في الحديث "تنقض عُرا الإسلام عروة عروة، فأوُّلهن نقضًا الحكم، وآخرهنّ الصلاة".
كما جاء أن أول ما يذهب من الصلاة الخشوع؛ لأنه جوهرها، وقطب رحاها، فإذا ضيع الخشوع، ضُيِّعت بعده، وإذا أضيعت الصلاة، ضاعت الأمة، كما يضيع العبد بإضاعة الصلاة سواء بسواء.
ولهذا أحسب -والله أعلم- أنَّ الأمة لن تنهض من جديد إلاَّ بعودة المسجد الأقصى إلى أحضانها، وإقامة الصلاة فيه، كما كانت تقام فيه تحت راية الإسلام، وأنَّ سيطرة اليهود عليه هو سرُّ التيه الذي نحن فيه. ومن تأمل التاريخ رأى بوضوح أن المؤامرة بدأت منذ مخططهم للاستيلاء عليه، ومن أجل ذلك مزقت الأمة، وقطعت أوصالاً بإزالة الخلافة، ثم تمت عندما سقط في أيديهم، وصارت الأمة بعده في تراجع مستمر.
ثم إنّ كلِّ المصائب التي حلت على أمتنا من التحالف الصهيوصليبي واحتلالهم بلاد الإسلام، ومكرهم الليل والنهار ضد الأمة، إنما هو لإكمال مخططهم ضد المسجد الأقصى بهدمه كليًّا، ومنع الصلاة فيه منعًا نهائيًّا. نسأل الله أن يخيب ظنونهم، ويردهم على أعقابهم خاسئين.
ولهذا فإن الجهاد اليوم أعظم أجرًا مما مضى، والتفريط فيه أقبح جرمًا مما مضى، والمخذِّل عنه أشدّ خيانة للأمة مما مضى.
وختامنا ما ختم به نبينا حياته التي هي أعظم حياة، عندما أوصى بالصلاة وهو يفارق هذه الأمة، ويلحق بالرفيق الأعلى.