رسول الله.. الأسوة والقدوة
في مثل هذه الأزمات الهائلة، يتخلى الكثيرون عن المسئولية، سواء كان جهادًا أو غيره من الأعمال، فماذا نفعل في مثل هذه المواقف؟
الرسول ضرب لنا القدوة في ذلك، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فقد قدم لنا منهجًا عمليًّا واضحًا للخروج من مثل هذه الأزمات، فماذا فعل الرسول ؟
كان أهم شيء فعله أن ضرب لنا القدوة من نفسه كقائد، إذ إنه لو فرَّ القائد فلا أمل في ثبات الجنود، وإذا تخلى القائد عن المسئولية فلن يحملها أحد. الرسول ثبت في هذه الموقعة ثباتًا عجيبًا، بل إنه لم يكتفِ بالثبات وعدم الفرار، بل كان يركض بدابته ناحية الكفار، حتى إن العباس -وكان من الثابتين معه - كان يمسك بلجام الدابة ليمنعها من التقدم؛ خوفًا على رسول الله . فالرسول يدخل في وسط جيش الكفار، والجيش كله يسير في اتجاه عكس الرسول ، ويفر إلى الوراء، والرسول متقدم إلى الأمام ينادي بأعلى صوته: "أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ. هَلُمُّوا إِلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ"[1].
يا تُرى هل يوجد أحد مثل رسول الله ؟
مستحيل! مهما قرأت في التاريخ والسير أو المعارك، من المستحيل أن تجد مثل ذلك الموقف أبدًا؛ إذا فكر القائد في النجاة بنفسه، فلا شك أن الجنود سيحبطون إحباطًا يمنعهم من أية مقاومة، أما إذا ثبت القائد وتقدم، وجاهد وضحَّى بنفسه، فهذا من أعظم الدروس التربوية لجيشه ولأمته، وإلا فلماذا تُعطى الراية في المعارك لأفضل الناس وأقواهم وأشجعهم؟
لأن الناس تبعٌ لراياتهم وقائدهم، فإذا هرب الشجاع الذي يحمل الراية، فلا شك أن غيره سيهرب وسينهزم؛ فلذلك نجد أن أشد القتال دائمًا يدور حول الراية، ليس لمجرد قتل رجل شجاع، ولكن لأن سقوط الراية سيؤثر معنويًّا في كل الجيش. والرسول كان يدرك هذا الكلام جيدًا؛ فلذلك حرص كل الحرص على عدم التراجع خطوة واحدة مع كل المخاطر التي تعرض لها، ولكن هذه هي الفرصة الأخيرة لجيشه ولأمته أن تراه ثابتًا فتثبت بثباته؛ ففِعل رجل في ألف رجل خيرٌ من قول ألف رجل في رجل، وألف خطبة في الثبات والتضحية لا تساوي موقف الرسول يوم حُنَيْن.
وهذه رسالة إلى كل المسئولين عن عمل، والذين يديرون أعمالاً جماعية للأمة الإسلامية، ثبات القائد يعني ثبات الجنود، وتضحية الرئيس تعني تضحية المرءوسين.
هذه هي الخطوة التي فعلها الرسول ، وهي ضرب القدوة من نفسه كقائد.
الأمر الثاني وهو في غاية الأهمية، فقد ركز الاعتماد على الموثوق فيهم من الجنود، فالقائد كفرد لا يستطيع أن يفعل شيئًا بدون الجنود، حتى وإن ثبت فلا بد أن يكون معه جنود. الزعيم لا يأتي بالنصر إلا إذا كان معه أمة، لكن يتفاوت الناس في إمكانياتهم وأخلاقهم، وفي تربيتهم، وفي تاريخهم، ومن أجل ذلك يتفاوت الناس في درجة الاعتماد عليهم؛ فهناك من يعتمد عليه في أمور، وهناك من يعتمد عليه في أمور أخرى، وهناك من لا يعتمد عليه بالكُلِّيَّة في أمر من الأمور، والقائد المحنك والرئيس الذكي هو الذي يدرك بوضوح إمكانيات من حوله، يعرف الأعمال البسيطة التي يستطيع الجميع القيام بها، ويعرف الأعمال الصعبة التي لا يقوم بها إلا بعض الرجال، كما يعرف الأعمال شديدة الصعوبة التي لا يفلح في أدائها إلا أقل القليل من الرجال، وكلما ازدادت حكمة القائد أدرك المستوى الدقيق لكل من حوله، وبالتالي لا يكلف أحدًا من جنوده فوق طاقته، وبناءً على ذلك يحقق نسبة نجاح كبيرة.
وتعالوا بنا لنرى كيف طبّق الرسول هذا الكلام، فهو أفضل من يُقيِّم الرجال، وأفضل من يقدِّر إمكانياتهم، فالرسول لم ينادِ في هذه المعركة على اثني عشر ألف مقاتل الذين معه؛ لأنه يعرف أن فيهم أناسًا حديثي الإسلام يصعب عليهم أن يثبتوا في هذه المواقف، بل إنه لم ينادِ على العشرة آلاف مقاتل الذين فتح بهم مكة، مع أننا نعرف جميعًا أن الذي دخل في الإسلام قبل الفتح له درجة عالية في الميزان الإسلامي، ومع ذلك لم ينادِ عليهم كلهم؛ لأنه يعلم أن منهم من آمنوا رهبة من الدولة الإسلامية، أو رغبة في خيراتها بعد انتصارات متتالية، مثل قبائل غطفان وسليم وتميم وغيرهم، ولكنه وجَّه النداء في أولئك الذين يثق في دينهم، ويطمئن لعقيدتهم. فهو يعلم تمامًا أنهم وإن فروا في أول يوم حُنَيْن إلا أنهم سيعودون سريعًا إلى حالتهم الأولى من البذل والعطاء والجهاد بمجرَّد التذكير؛ لأن معدنهم شديد النقاء.
ولكن من هؤلاء الذين وثق فيهم الرسول ؟
إنهم أصحاب الشجرة، أصحاب بيعة الرضوان الذين شهدوا صلح الحديبية، والذين فتحوا خيبر بعد ذلك، وهم الذين قال الله في حقهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
ويجب أن نعلم أن هؤلاء بايعوا قبل ذلك على عدم الفرار، ولا شك أنهم لو تذكروا هذه البيعة، بيعة الرضوان، لعادوا فورًا إلى القتال؛ لأنهم يقينًا لم يبايعوا هذه البيعة نفاقًا؛ لأن الله I ذكر في كتابه أنه علم ما في قلوبهم، وهؤلاء نزلت عليهم السكينة قبل ذلك، وهم على أبواب مكة في سنة 6 هجرية كما نعلم، وليس معهم إلا سلاح المسافر، نزول السكينة عليهم في هذا اللقاء في حُنَيْن سيحدث إن شاء الله بشرط أن يعودوا، وهؤلاء وإن كانوا ألفًا وأربعمائة فقط من اثني عشر ألفًا إلا أن الواحد منهم بمائة، وإن شئت فقل: بألف أو بأكثر من ألف. وهؤلاء إذا ثبتوا فكل الناس بعد ذلك ستثبت بثباتهم؛ فلذلك وجّه الرسول نداءه إلى هؤلاء، فقد أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي على هؤلاء المبايعين على عدم الفرار، فرفع العباس صوته، ونادى بكل ما فيه من قوة: يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب البيعة يوم الحديبية، اللَّهَ اللَّهَ، الكرة على نبيكم يا أصحاب السَّمُرة.
ثم إن الرسول خص النداء أكثر، فهو لم ينادِ على كل أصحاب الشجرة؛ لأنه يعرف نوعية الرجال الذين معه، فقد أمر العباس أن ينادي على الأنصار، وخص الأنصار من أصحاب الشجرة، فرفع العباس صوته ونادى: يا أنصار الله وأنصار رسوله.
ثم إنه خص أكثر وأكثر، فنادى على الخزرج: يا بني الخزرج، يا بني الخزرج.
ثم إنه خص أكثر وأكثر فنادى على بني حارثة من الخزرج، وهم من خير دور الأنصار كما قال في الحديث عن أبي أسيد الساعدي في البخاري ومسلم[2].
فماذا كان ردُّ فعل أصحاب الشجرة، والأنصار، والخزرج، وبني حارثة؟
وأترك لكم العباس يصوِّر ردَّ فعل هؤلاء أجمعين، حيث يقول: "فوالله، لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها".
أي عادوا بسرعة كالبقر الذي يدافع عن أولاده الصغار، وقال الأنصار في لحظة واحدة وبصورة جماعية وبحماسة لافتة للنظر: يا لبيك، يا لبيك[3].
سبحان الله! جاءوا من كل مكان في أرض الموقعة، وعلى الرغم من كل الأزمة التي يعيشها المسلمون إلا أنهم أتوا من كل مكان، حتى إنهم لا يرون الرسول من شدة تزاحم الناس، والرجل كان يجد صعوبة في العودة؛ لأنه يقود البعير أو الدابة في عكس الاتجاه، ومع ذلك كان يعود، وينزل على قدميه ويترجل؛ لكي يلحق بالرسول ، وهؤلاء هم الرجال الذين على أكتافهم تُبنى الأمة، وما هي إلا لحظات حتى كان مع الرسول مائة من الرجال، فمنذ قليل كان معه حوالي عشرة أو اثني عشر، والآن معه مائة، وعندما تجمعوا قال : "حَمِيَ الْوَطِيسُ"[4].
أي حميت الحرب واشتدت الحرب، وبدأ المسلمون في قتال دامٍ فعلاً، فالذين اجتمعوا حول الرسول ثابتين كلهم، والثابتون الأوائل هم:
أبو بكر الصديق.
وعمر بن الخطاب.
وعلي بن أبي طالب.
والعباس.
وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.
وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.
والفضل بن العباس.
وأيمن بن عبيد، وهو ابن أم أيمن.
وأسامة بن زيد، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
فهؤلاء قد ثبتوا من البداية، ثم جاء الأنصار كما ذكرنا حتى كملوا مائة، ثم بدأ المسلمون يتوافدون من كل مكان، وأمسك الرسول حفنةً من التراب، وقذفها في وجوه الكفار، وقال: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ"[5].
فدخل التراب في عيون وأنوف جميع الكفار، وكانت نقطة تحوُّل فارقة في موقعة حُنَيْن، وكانت البداية ثبات القائد الأعلى، ثم ثبت بثباته مجموعة قليلة من الرجال، ثم عاد إليه من الفارّين مجموعة أكبر، حتى وصلوا إلى مائة، ثم عاد الأنصار جميعًا وأصحاب الشجرة، ثم سرت روح المقاومة والثبات في الجميع، وعادوا يقاتلون في سبيل الله؛ فأول الغيث قَطْرة، ثم ينهمر. وهذه أول خطوة وهي ثبات القائد، ثم الاعتماد على الموثوق فيهم من الجنود، أما الخطوة الثالثة فقد كانت في غاية الأهمية، فماذا فعل مع هؤلاء الذين عادوا؟
كان أول شيء فعله أن ذكرهم بما نسوه، ألم تحدث المصيبة ويحدث الفرار؛ لأنهم ذكروا قوتهم وعددهم ولم يذكروا نصر الله لهم؟
إذن فليتذكر الجميع الآن أن النصر من عند الله ، فرفع رسول الله صوته يطمئن المسلمين ويقول: "انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، انْهَزَمُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ"
ثم رفع يده إلى السماء، وابتهل إلى الله تعالى في الدعاء، وقال في إلحاح: "اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ لاَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَيْنَا"[6].
وما النصر إلا من عند الله
سبحان الله في هذه اللحظات العظيمة عولج المرض الخطير الذي أصيب به المسلمون يوم حُنَيْن، فقد أدركوا بما لا يدع مجالاً للشك أن الناصر الحقيقي هو الله ، واستوعبوا بكل ذرة في كيانهم قول الله : {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10].
وانتقلت هذه الآية في لحظات يسيرة وسريعة من المفاهيم النظرية إلى الوقائع العملية، ولما تغير واقع المسلمين بهذه الصورة أذن الله للنصر أن ينزل على المسلمين. وكما تعودنا ينزل النصر في صورة لا يتوقعها المسلمون؛ ليعترف الجميع أن النصر من عند الله. ووسائل تحقيق النصر في حُنَيْن كانت عجيبة كما كانت من قبل في بدر، والأحزاب، وخيبر، ومكة، وغيرها. فماذا حدث؟
أنزل ربنا I على جنود الرحمن من المؤمنين السكينة، فقاتلوا بثبات وقوة، قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 26].
ونزع الخوف من قلوبهم فلم يروا خمسة وعشرين ألف مقاتل أو أكثر، فثبتوا في أرض القتال، وأنزل الله الرعب في قلوب الكافرين، فولوا مدبرين متنازلين بسهولة شديدة عمّا حققوه من نصر، متراجعين بمنتهى البساطة عن كل تقدم وصلوا إليه، وأنزل الله الملائكة كما قال I: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26].
وفي لحظات يفر جيش المشركين من جيش المسلمين، كيف حدث هذا؟!
كيف فرَّ أكثر من خمسة وعشرين ألف مقاتل في عُدَّة حسنة، وفي مواقع إستراتيجية جيدة، وفي حالة معنوية عالية من اثني عشر ألفًا تفرقوا هنا وهناك؟!
كيف؟! لا تسألوا عن الأسباب المادية، فقط قل: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} [الأنفال: 10].
لقد فر المشركون يوم حُنَيْن في لحظات معدودة، وانطلقوا يفرون في كل مكان، فالرعب قد ملأ قلوبهم، وتركوا وراءهم أموالهم وأنعامهم، وأكثر نسائهم وأولادهم. سبحان الله! وصف الله موقف المشركين بعد عودة المسلمين إلى ربهم بقول بليغٍ مختصر معجز، فقال I: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26].
ومن العذاب أن تأخذ قرار الفرار، ومن العذاب أن تهرب، وأنت الأكثر عددًا وعدة، ومن العذاب أن تتنازل عن حصاد السنين من المال والأنعام في لحظة واحدة، ومن العذاب أن تتخلى عن زوجتك وأولادك، ومن العذاب أن تشعر أن كل شيء يطاردك حتى الجماد. تخيلوا هذا الكلام حقيقة! فهذا عمرو بن سفيان الثقفي كان من المشركين الذين فروا في حُنَيْن -وقد أسلم وحسن إسلامه بعد ذلك والحمد لله- يقول: فانهزمنا، فما خُيِّلَ إلينا إلا أن كل حجر أو شجر فارس يطلبنا، فأعجرت[7] حتى دخلت الطائف[8].
أي أسرعت على فرسي من شدة خوفي؛ لأنه يتخيل أن الأرض كلها تطلبه، وهذا هو العذاب بعينه.
وعذّب الذين كفروا، وفر الجيش المشرك في ثلاثة اتجاهات؛ فقد فرَّ جزء إلى أوطاس (جانب من جوانب وادي حُنَيْن)، وجزء فر إلى منطقة نخلة، والجزء الثالث والرئيسي فر إلى مدينة الطائف. فقد فر الجميع بهذه الصورة المخزية المشينة، وهرب معهم قائدهم مالك بن عوف الذي دفعهم إلى هذه المهزلة العسكرية، واندفع المسلمون خلفهم هنا وهناك يطاردونهم في كل مكان، فقد توجهت سرية إلى أوطاس، وأخرى إلى نخلة، وتوجه الجيش الرئيسي بقيادة الرسول إلى الطائف لحصار هوازن وثقيف فيها، وأوقف الرسول توزيع الغنائم الهائلة التي حصلوا عليها حتى يعود من الطائف، وجعل كل هذه الغنائم في وادٍ اسمه الجعرانة بجوار حُنَيْن، وكانت هذه أكبر وأعظم غنائم تحصل في معركة واحدة في تاريخ العرب قاطبةً، فقد أتى مالك بن عوف كما ذكرنا بكل صغيرة وكبيرة في قومه ليجعلها تقع بعد ذلك في أيدي المسلمين، و"تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء الله"[9]، كما أخبر بذلك الرسول .
وبلغ السبي من النساء في هذه الموقعة ستة آلاف من النساء، وهذا رقم هائل! وتجاوز عدد الإبل أربعة وعشرين ألفًا، والأغنام أربعين ألفًا، والفضة كانت تزيد على أربعة آلاف أوقية من الفضة، أي حوالي مائة وخمسين كيلو جرامًا من الفضة. نصر هائل فعلاً، لم يتوقعه، ولم يحلم به أحد، فمعركة حُنَيْن من المعارك العجيبة فعلاً بكل المقاييس. وتخيلوا شهداء المسلمين في هذه الموقعة الضروس خمسة فقط! وكان قتلى المشركين سبعين فردًا.
والذي يشاهد الأعداد الهائلة المشتركة في هذه الموقعة: اثني عشر ألفًا يحاربون أكثر من خمسة وعشرين ألفًا، يتخيل أن الضحايا سيكونون بالمئات، بل بالآلاف، ولكن ذلك لم يحدث، فقد انقسمت المعركة ببساطة إلى جزأين لا ثالث لهما، جزء أول فر فيه المسلمون دون قتال تقريبًا، والجزء الثاني فر فيه المشركون دون قتال تقريبًا كذلك. هذه النتائج الهائلة، والغنائم العظيمة جاءت دون قتال يذكر، فرّ وكرّ، ثم كر وفر.
وهكذا تغيرت الأحداث في دقائق، وانقلب النصر إلى هزيمة، وتحولت الهزيمة إلى نصر، وكان الفارق هو تغير قلبي لا يراه أحد من البشر، لكن الله يراه؛ انحراف في الفهم ولو للحظات أدى إلى الفرار، وعودة إلى الفهم الصحيح في لحظات كذلك أدت إلى نصر؛ وذلك لكي تبقى الحقيقة واضحة في الذهن وراسخة في أعماق المسلمين {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10].
ولا يخفى علينا أن حُنَيْنًا تتكرر كثيرًا في حياتنا، فما أكثر توكُّلنا على الطبيب الماهر المشهور للدرجة التي تمنعنا أحيانًا من رفع الأيدي إلى الله I لطلب الشفاء منه، وهو الشافي! ولا أقصد طبعًا عدم التداوي، فالتداوي أمر نبويّ، ولكن الاعتماد على الطبيب، ونسيان رب الطبيب، هذا لا يُقبل. وكثيرًا ما نثق بمال الأغنياء من البشر، وننسى أن نرفع أيدينا بالدعاء لله الغني الرازق الذي بيده ملكوت السموات والأرض! وكثيرًا ما نوقن في توصية من كبير أو واسطة إلى عظيم، ولا نلجأ إلى الكبير العظيم المتعال I! وكثيرًا ما نطرق كل الأبواب، ولا نطرق باب الرحمن I! وكثيرًا ما نسأل كل البشر، ولا نسأل المنّان الكريم! وكثيرًا ما نطمئن لما في أيدينا، ولا نطمئن إلى ما في يدي الله مالك السموات والأرض وما بينهما!
لقد ذكرت لكم مرارًا أن حُنَيْنًا تتكرر في حياتنا كثيرًا، فنفرّ ونفشل، ونهرع ونخاف ونفزع، ولن نثبت وننتصر ونأمن إلا بما فعله الأولون، ولن يكون ذلك أيضًا إلا بأخذ بالأسباب مع الاعتماد الكامل على ربِّ الأسباب I، ولن يكون ذلك إلا بفقهٍ عميق للتاريخ، وقراءة متأنية للسيرة، واتّباع دقيق لمنهج سيد البشر وأعظم الخلق وإمام الرسل محمد .