سوف نتحدث عن داء عضال، ومرض خطير لا يكاد يسلم منه أحد إلا من رحمه الله، هذا الداء هو داء الكذب. الكذب أيها الأحبـة من سمات الكافرين الذين قال تعالى عنهم {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة: 39) .
وقال تعالى { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ( ق: 18). فما من لفظ يتلفظ به اللسان إلا وهو مسجل في كتاب، وقال تعالى مبيناً
أن العذاب الأليم لمن كان كاذباً فقال سبحانه وتعالى { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } (البقرة: 10). ولقد نفى المولى جل وعلا الإيمان عن أناس يفترون الكذب فقال سبحانه وتعالى { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } (النحل: 105).وقال تعالى { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ( ق: 18). فما من لفظ يتلفظ به اللسان إلا وهو مسجل في كتاب، وقال تعالى مبيناً
والكذب مستقبح شرعاً وعقلاً، وتأباه الفطرة السليمة، فإنك ما زلت توقر المرء ما دام صادقاً فإن كذب سقط من عينك.
وهو: مخالفة القول للواقع . وهو من أبشع العيوب والجرائم، ومصدر الآثام الشرور، وداعية الفضيحة والسقوط. لذلك حرمته الشريعة الإسلامية، ونعت على المتصفين به، توعدتهم في الكتاب والسنة:
قال تعالى (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب))(غافر: 28).
وقال تعالى: ((ويل لكل أفاك أثيم))(الجاثية:7).
وقال تعالى: ((إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله، وأولئك هم الكاذبون ))(النحل: 105).
أيها الأحبة: لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدق طريق إلى الجنـة، والكذب طريق إلى النار ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)1
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الكذب إحدى خصال النفاق والعياذ بالله فقال كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهـن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).
وفي حديث سمرة بن جندب الطويل بيان لعقوبة من يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، وقد جاء ذلك في الرؤيا التي رآها الرسول صلى الله عليه وسلم ومما جاء في الحديث (فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلقٍ لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب، حتى يصبح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى) وفي نهاية الحديث بيان الذنب الذي ارتكبه ذلك الرجل وفيه: (فإن الرجل يغدوا من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق)2 . وفي رواية (فيصنع به إلى يوم القيامة). (ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ولقد كان الرجل يحدث عند النبي صلى الله عليه وسلم بالكذبة فما يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة)3 .
أيها الأحبة: كم من أمور يظنها الناس أنها ليست بكذب وهي كذب من ذلك: دعوة الطفل الصغير لأخذ شيء والداعي لا يملكه فعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا وأنا صبي، قال: فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله تعالى أعطيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(وما أردت أن تعطيه؟!!) قالت: أعطيه تمراً، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة)4 ومن ذلك: التحدث بكل ما يسمع؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)5 ومن ذلك: التحدث بالكذب لإضحاك الناس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(ويل للذي يحدث فيكذب، ليضحك به القوم ويل له ويل له)6
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأن يضعني الصدق –وقلما يضع- أحب إليّ من أن يرفعني الكذب وقلما يفعل)7
وصح عنه عليه الصلاة والسلام قال: لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح، ويترك المراء وإن كان صادقاً)8
قال أبو عبد الله الإمام أحمد: الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل9
وقال ابن القيم:
إياك والكذاب، فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس وقال أيضاً: فإن الكاذب يصور المعدوم موجوداً والموجود معدوماً، والحق باطلاً، والباطل حقاً، والخير شراً، والشر خيراً، فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له، ثم يصور ذلك في نفس المخاطب. وقال أيضاً: ولهذا كان الكذب أساس الفجور كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. وقال أيضاً: إن أول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها، يعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله، فيتحكم عليه الفساد ويترامى داؤه إلى الهلكـة)10
مساوئ الكذب
وإنما حرمت الشريعة الإسلامية (الكذب) وأنذرت عليه بالهوان والعقاب، لما ينطوي عليه من أضرار خطيرة، ومساوئ جمة، فهو:
1 ـ باعث على سوء السمعة، وسقوط الكرامة، وانعدام الوثاقة، فلا يصدق الكذاب وإن نطق بالصدق، ولا تقبل شهادته، ولا يوثق بمواعيده وعهوده.
ومن خصائصه انه ينسى أكاذيبه ويختلق ما يخالفها، وربما لفق الأكاذيب العديدة المتناقضة، دعما لكذبة افتراها، فتغدوا أحاديثه هذرا مقيتا، ولغوا فاضحا.
2 ـ إنه يضعف ثقة الناس بعضهم ببعض، ويشيع فيهم أحاسيس التوجس والتناكر.
3 ـ إنه باعث على تضييع الوقت والجهد الثمينين، لتمييز الواقع من المزيف، الصدق من الكذب.
4 ـ وله فوق ذلك آثار روحية سيئة، ومغبة خطيرة، نوهت عنها النصوص لسالفة.
دواعي الكذب
الكذب انحراف خلقي له أسبابه ودواعيه، أهمها:
1 ـ العادة: قد يعتاد المرء على ممارسة الكذب بدافع الجهل، أو التأثر بالمحيط المتخلف، أو لضعف الوازع الديني، فيشب على هذه العادة السيئة، وتمتد جذورها في نفسه، لذلك قال بعض الحكماء: (من استحلى رضاع الكذب عسر فطامه).
2 ـ الطمع: وهو من أقوى الدوافع على الكذب والتزوير، تحقيقا لأطماع الكذاب، وإشباعا لنهمه.
3 ـ العداء والحسد: فطالما سولا لأربابهما تلفيق التهم، وتزويق الافتراءات والأكاذيب، على من يعادونه أو يحسدونه. وقد عانى الصلحاء والنبلاء الذين يترفعون عن الخوض في الباطل، ومقابلة الإساءة بمثلها ـ كثيرا من مآسي التهم والافتراءات الأراجيف.
أنواع الكذب
للكذب صور شوهاء، تتفاوت بشاعتها باختلاف أضرارها وآثارها السيئة، وهي:
الأولى :اليمين الكاذبة
وهي من أبشع صور الكذب، وأشدها خطرا وإثما، فإنها جناية مزدوجة:
جرأة صارخة على المولى عز وجل بالحلف به كذبا وبهتانا، وجريمة نكراء تمحق الحقوق وتهدر الكرامات.
من أجل ذلك جاءت النصوص في ذمها والتحذير منها:
أضرار اليمين الكاذبة وشهادة الزور
وإنما حرمت الشريعة الإسلامية اليمين الكاذبة، وشهادة الزور، وتوعدت عليهما بصنوف الوعيد ، لآثارهما السيئة، وأضرارهما الماحقة، في دين الإنسان ودنياه، من ذلك:
1 ـ أن مقترف اليمين الكاذبة، وشهادة الزور، يسيء إلى نفسه إساءة كبرى بتعريضها إلى سخط الله تعالى، وعقوباته التي صورتها النصوص السالفة.
2 ـ ويسيء كذلك إلى من سانده ومالأه، بالحلف كذبا، والشهادة زورا، حيث شجعه على بخس حقوق الناس، وابتزاز أموالهم، وهدر كراماتهم.
3 ـ ويسيء كذلك إلى من اختلق عليه اليمين والشهادة والمزورتين، بخذلانه وإضاعة حقوقه، وإسقاط معنوياته.
4 ـ ويسئ إلى المجتمع عامة بإشاعة الفوضى والفساد فيه، وتحطيم قيمه الدينية والأخلاقية.
5 ـ ويسيء إلى الشريعة الإسلامية بتحديها، ومخالفة دستورها، الذي يجب إتباعه وتطبيقه على كل مسلم.
علاج الكذب
فجدير بالعاقل أن يعالج نفسه من هذا المرض الأخلاقي الخطير، والخلق الذميم، مستهديا بالنصائح التالية:
1 ـ أن يتدبر ما أسلفناه من مساوئ الكذب، وسوء آثاره المادية والأدبية على الإنسان.
2 ـ أن يستعرض فضائل الصدق ومآثره الجليلة، التي نوهنا عنها في بحث الصدق.
3 ـ أن يرتاض على التزام الصدق، ومجانبة الكذب، والدأب المتواصل على ممارسة هذه الرياضة النفسية، حتى يبرأ من هذا الخلق الماحق الذميم.