هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حَرِيز، الزُّرَعِي الأصل، ثم الدمشقي، الحنبلي، المشهور بابن قَيِّم الجوزية، شمس الدين، أبو عبد الله.
أما شهرته -رحمه الله- بابن قَيِّم الجوزية:
فقد أجمعت على هذه الشهرة كل المصادر التي ترجمته، وبها عُرِف بين أهل العلم قديمًا وحديثًا.
وأما عن سبب هذه الشهرة وأصلها: فلأن والده كان قَيِّما على المدرسة (الجوزية) التي كان ابن القَيِّم إمامها. ومع أن وظيفة القِوامة في (المدرسة الجوزية) لم تكن حكرًا على أبي بكر -والد ابن القَيِّم- وحده، بل لا بدّ أن يكون قد تولاها غيره -إما قبله أو بعده- إلا أن الواضح: أن والد ابن القَيِّم كان أشهر من تولى هذا المنصب، فصار هو المراد عندما يقال: (قيم الجوزية)، وغلبت -بالتالي- هذه الشهرة على ابنه، حتى صار لا يُعرف إلا بها، والمشهور الآن بين أهل العلم وطلابه، وأكثر الناس قولهم: (ابن القَيِّم) بحذف المضاف إليه اختصارًا وجعل (ال) عوضًا عنه، وهذا الاختصار لا مانع منه؛ فقد صار هو المقصود عند الإطلاق لشهرته، ومع ذلك ينبغي التنبه من التباسه بغيره والأصل ابن قيم الجوزية.
كنية ابن القيم ولقبه:
اتفق كل من ذكر كنيته من مترجميه على أنها (أبو عبد الله)، وذلك تكنية له باسم ولده عبد الله، وهو أصغر ولديه كما سيأتي في ترجمته، واتفقت مصادر ترجمته أيضًا على تلقيبه بـ (شمس الدين).
مولد ابن القيم:
اتفقت الكتب التي ترجمت لابن القَيِّم -رحمه الله- على أن مولده كان في سنة إحدى وتسعين وستمائة(691هـ)، وذكر الصَّفَدِي -من بينهم- يوم ولادته وشهرها، فقال: "مولده سابع صفر سنة إحدى وتسعين وستمائة". وتابعه على ذلك: السيوطي، ثم الداودي.
أما عن مكان ولادته فلم ينص أحد ممن ترجم له على ذلك، وقد تقدم أنه منسوب إلى (زرع) أولاً، ثم (دمشق) ثانيًا، فقال ابن ناصر الدين رحمه الله: "... الزرعي الأصل، ثم الدمشقي"، فهل يعني ذلك أنه ولد في (زرع)، ثم انتقل إلى دمشق؟ أم أن الانتقال حصل لأبيه أو أحد أجداده، وأن مولده كان في دمشق؟ كلا الأمرين محتمل، وعلى كلٍّ فإن الأمر في ذلك سهل؛ إذ إن مكان ولادته لا يخرج عن أحدهما.
أولادُ ابن القيم:
ولما كانت هذه الشجرة المباركة الطيبة، ثابتة الأصول ضاربة بجذورها الخيرة إلى أعماق بعيدة، فقد كانت دائمة الأُكُل، مستمرة العطاء، فقد رزق الله ابن القَيِّم رحمه الله أولادًا صالحين، عالمين عاملين، فكانوا خير خلف لخير سلف.
وممن وقفت على تراجمهم وبعض أخبارهم من هؤلاء الأبناء:
1- عبد الله، الفقيه الفاضل الْمُحَصِّل، جمال الدين، ابن الشيخ شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية، مولده سنة (723) ، وهي سنة وفاة جده أبي بكر.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "الشيخ... الفاضل المحصل، جمال الدين عبدالله بن العلامة شمس الدين... كانت لديه علوم جيدة، وذهنه حاضر خارق، أفتى ودَرَّسَ وأعاد وناظر، وحج مرات عديدة، رحمه الله وَبَلَّ بالرحمة ثراه".
وقال ابن حجر: "... اشتغل على أبيه وغيره، وكان مفرط الذكاء، حفظ سورة الأعراف في يومين، ثم دَرَسَ (المحرر) في الفقه،و(المحرر) في الحديث... ومهر في العلم، وأفتى ودَرَّسَ، وحج مرارًا... قال ابن رجب: كان أعجوبة زمانه"، وقال ابن حجر أيضًا: "صلى بالقرآن سنة 731هـ"، فيكون رحمه اللهقد حفظ القرآن وهو ابن تسع سنين.
وأما وظائفه العلمية التي شغلها:فإنه قد دَرَّسَ (بالصدرية) عقب وفاة أبيه، قال ابن كثير رحمه الله: "وفي يوم الاثنين ثاني عشر شهر شعبان -يعني من سنة 751هـ، بعد وفاة أبيه بشهر- ذكر الدرس بالصدرية شرف الدين عبد الله بن الشيخ الإمام العلامة شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية عوضًا عن أبيه رحمه الله، فأفاد وأجاد، وسرد طرفًا صالحًا في فضل العلم وأهله".
كما أنه قد اشتغل بالخطابة؛ قال الحافظ ابن كثير: "وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول أقيمت جمعة جديدة بمحلة الشاغور بمسجد هناك يقال له: مسجد المزار، وخطب فيه جمال الدين عبد الله بن الشيخ شمس الدين ابن قَيِّم الجوزية...".
توفي رحمه الله شابًا، وذلك سنة (756هـ) وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة. "وكانت جنازته حافلة" ودفن عند أبيه بالباب الصغير، فرحمه الله رحمة واسعة.
2- إبراهيم، العالم الفقيه، برهان الدين، أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن أبي بكر، ذكر ابن رافع أن مولده سنة (716هـ) ، ووافقه على ذلك: ابن حجر رحمه الله، وكذا قال الشيخ بكر أبو زيد، وذكر الحافظ الذهبي أن مولده سنة "بضعة عشرة وسبعمائة".
وأما الحافظ ابن كثير، فقد ذكر عمره حين وفاته، فقال: "بلغ من العمر ثمانيًا وأربعين سنة"، وإذا اعتبرنا ذلك بتاريخ وفاته -الذي اتفقوا على أنه كان سنة 767هـ- فيكون وقت ولادته هو سنة (719هـ)، وبه جزم صاحب (منادمة الأطلال)، ولعله استظهره من كلام ابن كثير رحمه الله، وهذا يعارض ما تقدم من أنه ولد سنة (716هـ)، ولعل الحافظ ابن كثير يكون أعرف به من غيره؛ إذ كان على صلة به ومعرفة، والله أعلم.
قال الذهبي رحمه الله: "قرأ الفقه والنحو على أبيه، وسمع وقرأ وتَنَبَّه وسَمَّعَه أبوه من الحجَّار"، وقال الحافظ ابن كثير: "كان بارعًا فاضلاً في النحو والفقه وفنون أخر على طريقة والده، رحمهما الله تعالى، وكان مدرسًا بالصدرية، والتدمرية، وله تصدير بالجامع، وخطابة بجامع ابن صلحان"، وقال ابن رافع: "طلب الحديث وقتًا، وتَفَقَّه، واشتغل بالعربية، وشرح ألفية ابن مالك"، وقال ابن قاضي شهبة: "وكان له أجوبة مسكتة".
وبعد عمر حافل بالجد والعطاء، وحياة علمية مزدهرة مشرقة، توفي هذا الإمام البارع، ابن الإمام العلامة، وذلك في يوم الجمعة مستهل صفر من سنة (767هـ)، "وحضر جنازته القضاة والأعيان، وخلق من التجار والعامة، وكانت جنازته حافلة".
وقد كان - مع هذا العلم والفضل - ذا مال ونعمة، فقد "ترك مالاً جزيلاً يقارب المائة ألف درهم"3. فرحمه الله رحمة واسعة.
أخلاق ابن القيم وصفاته الشخصية:
إن أول ما يلمسه المرء ويحسه -وبخاصة إذا كان ممن عَرَفَ ابن القَيِّم، وعاش مع تراثه الممتع النافع- أنه أمام عالم عامل، وداعية مخلص صادق، ومربٍ فاضل، أفنى عمره في محاربة كل شر ورذيلة، والدعوة إلى التخلق بكل خير وفضيلة، فلم يكن ابن القَيِّم -رحمه الله- ممن يتكسبون بدعوتهم، أو يطلبون بها عرضًا زائلاً -كما كان حال البعض في عصره- وإنما كان صاحب رسالة سامية، عاش حياته مبلغًا لها ومنافحًا عنها.
فلا عجب إذن أن يكون على درجة عالية من الأخلاق الفاضلة، والخلال الحميدة، بشهادة كل من عايشه وسعد بصحبته، فقد كان (الغالب عليه الخير والأخلاق الصالحة) كما وصفه بذلك تلميذه ابن كثير رحمه الله، كما لا يفوتنا التنبيه على أن هذه الأسرة الطيبة التي نشأ ابن القَيِّم بين أحضانها، وما لقيه منها من رعاية وحسن توجيه -وخاصة والده الذين قدمنا طرفًا من سيرته العطرة- كان لها أكبر الأثر في تحلي ابن القَيِّم رحمه الله بجميل العادات، ومحاسن الأخلاق، كما سبق التنبيه على ذلك.
ويمكن لنا أن نسجل بعض هذه الصفات التي كان متخلقًا بها،وذلك من خلال شهادة تلاميذه، وأصحابه ومن عرفوه، وكذا من خلال ما يظهر من مطالعة سيرته ومؤلفاته، فلعل ذلك يكون باعثًا على التحلي بمثل أخلاق هذا الإمام الفاضل؛ فمن هذه الصفات:
1- حسن العشرة، وكثرة التودد إلى الناس والتَّحَبُّب إليهم، لاسيما أهل الفضل والصلاح منهم، فكان الحافظ ابن كثير -مثلاً- من (أحب الناس إليه) كما حكى هو كذلك.
2- كَفُّ الأذى عن الخلق، فكان رحمه الله "لا يحسد أحدًا، ولا يؤذيه، ولا يستعيبه، ولا يحقد على أحد"، كما قال ذلك أصحب الناس له ابن كثير رحمه الله.
هكذا كان ابن القَيِّم متحببًا إلى الناس متجملاً معهم، كَافًّا أذاه عنهم؛ لأنه رحمه الله كان يعلم أن حسن الخلق هو: "طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى»، فإنه قد نقل ذلك عن عبد الله بن المبارك رحمه الله، شارحًا به حسن الخلق وموضحًا معناه، فرحم الله ابن القَيِّم: الذي عَلِمَ، فتخلق بهذا العلم وعمل به، ثم دعا إليه ونشره بين الناس.
3- شِدَّةُ محبته للعلم، وكتابته، ومطالعته، كما وصفه بذلك تلميذه ابن رجب رحمه الله، وكيف لا يكون شديد الحب للعلم، شديد التعلق به، وهو القائل: "النَّهْمَةُ في العلم، وعدم الشبع منه من لوازم الإيمان، وأوصاف المؤمنين".
4- جِدُّهُ واجتهاده رحمه الله في تحصيل ما نذر نفسه لتحصيله من هذا العلم الشريف، وإنفاق أيام العمر وسِنِيِّه في ذلك، بحيث وصف بـ "كثرة الطلب ليلاً ونهارًا".
5- جرأته رحمه الله وصلابته في دين الله، وصدعه بالحق؛ فلم يكن يحابي أحدًا فيما يعتقد أنه الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، مع ما سببه ذلك له من محن وإيذاء كما سيأتي. قال الإمام الشوكاني في وصفه إياه: "... صادعًا بالحق لا يحابي فيه أحدًا".
6- تجرده رحمه الله في أبحاثه العلمية من كل هوًى نفسي، أو غرض ذاتي شخصي، وإنما كان يبتغي الوصول إلى الحق والصواب، ولو ظهر هذا الحق على لسان غيره.
فمن ذلك: أنه صوّب إثبات (الواو) في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم" ثم قال: "فهذا ما ظهر لي في هذه اللفظة، فمن وجد شيئًا فليلحقه بالهامش، فيشكر الله له، وعباده سعيه، فإن المقصود: الوصول إلى الصواب، فإذا ظهر وضع ما عداه تحت الأرجل".
7- تَوَاضُعُه وإنكاره لِذاتِهِ، واستصغاره لنفسه وعلمه، من ذلك: ما نجده في أكثر كتبه من تصريحه بقلة بضاعته في هذا الشأن، مع إسناده الصواب في ذلك إلى الله، وأن ذلك من فضله وتوفيقه، وإسناده الخطأ والنقص إلى نفسه، هذا ما يقوله، مع ما عرف عنه من جودة تصانيفه، وكثرة إفاداته، وغزارة علمه رحمه الله.
8- صَبْرُهُ رحمه الله على الأذى والْمِحَن والابتلاء في ذات الله سبحانه، دون جزع أو ضَجَر، فكم عانى من ألم السجن ومرارة الحبس، فكان يقابل كل ذلك صابرًا محتسبًا، بل "كان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن بالتَّدَبُّرِ والتَّفَكُّرِ، فَفُتِح عليه من ذلك خير كثير..." كما يقول ابن رجب رحمه الله، فانقلبت بذلك محنته إلى منحة، وسجنه إلى خلوة للتعبد والمناجاة. وهذا لا شك دال على شجاعته رحمه الله، تلك الخصلة التي وصفها مرة بقوله: "الشجاعة: ثبات القلب عند النوازل"، ولما كانت الشجاعة -بهذا المعنى- "خلقًا كريمًا من أخلاق النفس"، فقد كان رحمه الله متخلقًا بها متحليًا بفضائلها.
زهد ابن القيم وعبادته:
إنَّ في حياة العلامة ابن القَيِّم وسلوكه جانبًا آخر-غير ما سبق- وهو جانب: اجتهاده مع مولاه، وخوفه منه ورجائه إياه، وسعيه في تحصيل رضاه، واستعداده ليوم لقاه.
فإن "من يقرأ مؤلفات ابن القَيِّم - رحمه الله تعالى -وبخاصة كتابه (مدارج السالكين)- يخرج بدلالة واضحة: على أن ابن القَيِّم رحمه الله كان لديه من عمارة قلبه باليقين بالله والافتقار والعبودية، والاضطرار، والإنابة إلى الله، الثروة الطائلة، والقدح الْمُعَلَّى في جَوِّ العلماء العاملين، الذين هم أهل الله وخاصته، وأن لديه من الأشواق والمحبة التي أخذت بمجامع قلبه -لا على منهج المتصوفة الغلاة، بل على طريق السلف الصالح- ما عمر قلبه بالتعلق بالله في السِّر والعلن، ودوام ذِكْرِهِ، وأن العبادة حَلَّت منه محل الدواء والمعالجة، وترويض النفس".
فلقد عَمَرَ ابن القَيِّم رحمه الله ما بينه وبين الله سبحانه، بالاجتهاد في العبادات والطاعات، كما عَمَر ما بينه وبين الناس بحسن الخلق، والاتصاف بجميل العادات، فكان بذلك خير مثال للعلماء الصادقين، الذين جمعوا بين العلم والعمل، وفيما يلي طرفٌ مما حكاه بعض من شاهد أحواله في ذلك:
1- طول صلاته وقيامه بين يدي الله سبحانه: وطول ركوعه وسجوده: فقد وُصِفَ رحمه الله بطول الصلاة "إلى الغاية القصوى"، وكانت طريقته رحمه الله في الصلاة: أنه "يطيلها جدًا، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا يَنْزِع عن ذلك رحمه الله"، وكيف يَنْزِع عن ذلك، أو يُقْلِع عنه، وقد وجد راحة نفسه، وطمأنينة قلبه، والأنس بمحبوبه في طول الوقوف بين يديه سبحانه، وكثرة المناجاة له؟ وكيف يُقْلِع عن ذلك وهو يرى أن "من لم تكن قرة عينه في الصلاة، ونعيمه وسروره ولذته فيها، وحياة قلبه وانشراح صدره"، فأولى به أن يكون من السُّرَّاق في صلاتهم، الذين ينقرونها نقرًا.
2- تهجده وقيامه الليل:فقد قال عنه ابن رجب رحمه الله: "كان ذا عبادة وتهجد"، وكيف بهذا العالم الرباني يغفل عن قيام الليل، أو يتوانى في ذلك، وقد علم أنه (وَقْتُ قَسْمِ الغَنَائم)، فأسهر ليله، ووقف بين يدي مولاه والناس نيام حتى يكون يوم القيامة من الآمنين، وفي الموقف من المطمئنين؛ فإن من "سَبَّح الله ليلاً طويلاً،لم يكن ذلك اليوم ثقيلاً عليه، بل كان أخفَّ شيء عليه"، كما يقول هو رحمه الله.
3- كثرة ابتهاله وتضرعه ودعائه: فقد وصفه ابن كثير رحمه الله بـ (كثير الابتهال)، وقد وُصِفَ أيضًا بـ "الافتقار إلى الله، والانكسار له، والاطِّراح بين يديه على عتبة عبوديته" بحيث لم يشاهد مثله في ذلك.
4- ملازمته رحمه الله لذكر الله واستغفاره: بحيث كان ذا (لَهَجٍ بالذكر... والإنابة والاستغفار"، ومما يذكر عنه في ذلك أيضًا: أنه كان إذا صلى الفجر يجلس مكانه يذكر الله تعالى حتى يتعالى النهار جدًا، وكان إذا سُئِل عن ذلك يقول: هذه غَدْوَتِي، ولو لم أَتَغَدّ هذه الغدوة سقطت قواي. وقد ذكر هو رحمه الله عن شيخه ابن تَيْمِيَّة مثل ذلك فلا مانع أن يكون هذا الفعل ثابتًا عنهما رحمهما الله، وحريّ بمثل ابن القَيِّم أن يحرص على الذكر، ويكثر منه ولا يفارقه، ويجد فيه راحة قلبه؛ وذلك أنه عرف منزلة ذكر الله وفوائده الجمة، حتى أخبر رحمه الله أن "في الذكر أكثر من مائة فائدة"، ثم ساق من هذه الفوائد نيفًا وتسعين فائدة.
5- قراءة القرآن بالتدبر والتفكر: فقد كان رحمه الله لا يفتر عن ذلك حتى في أوقاته الحرجة، ويصف تلميذه ابن رجب رحمه الله حاله في السجن، فيقول: "وكان في مدة حبسه مشتغلاً بتلاوة القرآن بالتدبر والتفكر"، ولأجل ما كان عليه في ذلك من التدبر والتفكر في كتاب الله، فإن تلميذه ابن رجب لم ير "أعرف بمعاني القرآن... منه".
نُبْل أهداف ابن القيم ونقاء آرائه:
تَقَدَّمَ أن ابن القَيِّم رحمه الله كان قد عاش في بيئة يسودها كثير من الفساد الديني والأخلاقي، وتنتشر فيها عادات اجتماعية متردية، وتروجُ فيها أفكارٌ ونِحَلٌ منحرفةٌ مع انتسابها زُورًا للإسلام، وشاء الله سبحانه وتعالى وله الحمد أن يشرح صدر ابن القَيِّم للمنهج الحق، وأن يريه الطريق المستقيم، وأن يُحَبِّبَ إلى قلبه التمسك بالكتاب والسنة دون سواهما، وكان من توفيق الله عز وجل أن هيَّأ له أستاذًا فاضلاً، وعلمًا شامخًا، وعالمًا نِحْرِيرًا مجاهدًا، وهو: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي كان سبقه إلى سلوك هذا السبيل، فكان له - بعد توفيق الله - خير القدوة، ونعم المرشد؛ فقد لازمه ابن القَيِّم رحمه الله منذ عودته من الديار المصرية إلى دمشق سنة (712هـ)، إلى أن توفي الشيخ رحمه الله في سنة (728هـ)1، حتى صار من أصحب الناس له، وألصقهم به ومن أخصِّ تلاميذه والْمُقَرِّبِين إليه، ولقد تَمَكَّنَت محبةُ الشيخ من قلب تلميذه ابن القَيِّم رحمه الله، فكان لا يفارقه أبدًا، حتى إنه كان محبوسًا معه في القلعة إلى أن مات الشيخ رحمه الله.
وهكذا كان لابن تَيْمِيَّة رحمه الله أثرٌ كبيرٌ؛ بل أكبر الأثر في حياة ابن القَيِّم رحمه الله: توجيهًا وتعليمًا، وتربيةً وإرشادًا؛ فقد أخذ عنه عِلمًا غزيرًا، واستفاد منه منهجًا قويمًا في حياته ودعوته (مع ما سلف له من الاشتغال والتحصيل) حتى حَمَل الراية من بعده، وسار على الدَّرْبِ نفسه، داعيًا للرجوع إلى الكتاب والسنة، والتمسك بهديهما، وفتح الله عليه في ذلك الفتح المبين، فكان ولا يزال مِشْعَلَ خير ونور، هدى الله به الكثيرين إلى صراطه المستقيم.
فلعلها "سرت إليه بركة ملازمته لشيخه ابن تَيْمِيَّة في السراء والضراء، والقيام معه في محنه، ومواساته بنفسه، وطول تردده إليه" كما يقول الإمام الشوكاني رحمه الله.
كانت تلك إلماحة سريعة إلى أبرز العوامل التي هيأها الله سبحانه لابن القَيِّم في هذه البيئة المظلمة، فكانت أكبر عون له على الصمود في وجه تلك التحديات.
ولا بد لنا -بعد ذلك- أن نبرز الأهداف التي تَبَنَّاها ابن القَيِّم رحمه الله، وكان يسعى لتحقيقها، تلك الأهداف التي كانت محور دعوته، ولبَّ رسالته، التي عاش مجاهدًا من أجل تحقيقها، حتى لقي الله - عزوجل- على ذلك، وهذه الأهداف وإن تنوعت وتعددت، فإنها تدور في مجملها حول محور واحد وغاية عظمى، ألا وهي: الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة ومحاربة البدعة.
أهداف ابن القيم النبيلة وآراءه السديدة:
أولاً: الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة، والعمل بهما، والتحاكم إليهما عند التنازع، ونبذ ما يخالف ذلك من الآراء والأقوال، فتجعل نصوص الوحي المنزل حكمًا على ما سواها من آراء الرجال وأقوالهم، وقد أولى رحمه الله هذا الجانب عناية خاصة، واجتهد في تقريره والدعوة إليه، وسخَّر جهده ووقته وقلمه في سبيل الله تحقيقه، بل أفرد لذلك المصنفات التي يردُّ فيها على الفلاسفة وأهل الكلام، وأتباعهم من المنتسبين إلى الإسلام.
ثانيًا: الدعوة إلى اتِّباع السنة النبوية الصحيحة النقية، كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير مما خالط ذلك من البدع الْمُحْدَثَات، التي تَدَيَّنَ بها كثير من الناس، معرضين -في الوقت نفسه- عن الثابت الصحيح من سنته صلى الله عليه وسلم.
وقد كان رحمه الله دائم التنبيه على البدع، وبيان الصحيح من سنته صلى الله عليه وسلم من الدخيل الْمُحْدَثِ، كلما وجد مناسبة لذلك.
ثالثًا: ذمُّ التقليد الأعمى، الذي يحمل المقلد على ترك ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لقول مُقَلَّدِهِ، فلا يرى الحق إلا مع إمامه، ولا يقبل من الدين إلا ما جاء من طريقه، ويصف ابن القَيِّم رحمه الله هذا النوع من التقليد المذموم بأنه: "الإعراضُ عن القرآنِ والسننِ وآثارِ الصحابةِ، واتخاذُ رَجلٍ بعينه مِعْيَارًا على ذلك، وتركُ النصوص لقوله، وعرضها عليه، وقبول كل ما أفتى به، ورد كل ما خالفه".
رابعًا:ذمُّ التعصب المذهبي ومحاربته، وكشف عواره، والتحذير منه.
فالتعصب المذهبي خطره عظيم، وشره جسيم، وإنما هو ناشئٌ عن التقليد ولا يقل في خطورته عنه، بل إنه أشد ضررًا من التقليد؛ فإن المقلد قد يكون قانعًا بمجرد التقليد، لكن المتعصبين زادوا على ذلك: أنهم - مع تقليدهم - "قد جعلوا التعصب للمذهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يتجرون"، وفي سبيلها يوالون ويعادون ويصلون ويقطعون، ويحبون ويبغضون، فقد "أشقاهم التعصب وأصَمَّهم وأعمى أبصارهم عن نور الوحيين: الكتاب والسنة، حتى بلغ بهم الهوس إلى المهاترات، ورد المذهب بمذهب آخر".
خامسًا: محاربة الانحراف في العقيدة، والدعوة للرجوع إلى ما كان عليه سلف هذه الأمة في باب العقيدة: فَهْمًا وسلوكًا، ولقد كان هذا هو هدف ابن القَيِّم الأهم، الذي أنفق في سبيله الكثير من جهده، وسطَّر من أجله العديد من مؤلفاته، وذلك أنه قد انتشرت في عصره الأفكار الفلسفية، والمناهج الكلامية، وأدى ذلك إلى ظهور بدع التأويل لنصوص الصفات تأويلاً يُفْضي إلى تحريفها عن معناها، أو تعطيلها عن مضمونها ونفيها، ولاشكَّ أن ذلك مخالف لما عليه سلف هذه الأمة من: إثبات ما وصف الله - سبحانه - به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، إثباتًا بلا تشبيه، وتنْزيهه عمَّا نزه عنه نفسه، ونَزَّهه عنه رسوله، تنْزيهًا بلا تعطيل.
سادسًا: تقرير أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة لا يضربُ بعضُهَا بعضًا، وأنها تتفق ولا تفترق، وأنها كلٌّ لا يتجزأ، ولذا فإنه لا ينبغي أخذ بعضها وترك بعضها الآخر، فيأخذ أحدهم ما يناسبه، ويَطِّرِح ما يخالف هواه، بل لابد من تنْزيل كل نص من نصوصها منْزله، وحمله على ما وُضِعَ له.
سابعًا: الحرص على توجيه العلماء والمفتين والمبلغين عن رب العالمين، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن يكونوا صادقين مخلصين، عالمين عاملين، صادعين بالحق لا يخافون، وما ذلك إلا لعظمِ مكانةِ العلماء وخطورة شأنهم؛ فإنه لَمَّا كان قيام الإسلام إنما هو بطائفتي: العلماء والأمراء، كان صلاح الدنيا كلها بصلاحهما، وفسادها بفسادهما، كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:
وهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إلا الْمُلُوُكُ *** وأحـبارُ سُوءٍ وَرَهْـبَانُهَا
مِحَنُ ابن القيم:
لقد عشنا مع ابن القَيِّم رحمه الله في بيئته التي نشأ وترعرع فيها، وعرفنا أحوال عصره ومجتمعه وما كان يسوده من سلبيات ومفاسد دينية أخلاقية، ورأينا كيف كان ابن القَيِّم- في ظل هذه الأوضاع السيئة- صاحب رسالة سامية، وأهداف نبيلة، ومبادئ إصلاحية يهدف من ورائها: إلى الرجوع بالناس إلى ما كان عليه سلف هذه الأمة من التمسك بالكتاب والسنة ونبذ البدع والخرافات والتقليد والتعصب.
لكن طريقه هذا الذي سار فيه لم يكن سهلاً ميسورًا، بل كان محفوفًا بالمشاقِّ، فنزلت به بسبب ذلك محن عديدة، وتعرَّض لإيذاء واضطهاد وفتن أثناء جهاده لنشر دعوته، وسعيه لإصلاح حال مجتمعه.
فلم يكن من السهل على هذا المجتمع الذي سيطرت عليه الأفكار الدخيلة، وسادته البدع المتوارثة، أن يستجيب لهذا المصلح المجاهد الذي بزغ نوره في هذا الظلام الحالك، وكيف يتم له ذلك ولهذه البدع حُرَّاسٌ وحماةٌ من أمراء البلاد وحُكَّامها، بل ومن بعض الْمُنْتَسِبين إلى العلم أنفسهم؟!
- إنكاره شَدُّ الرَّحْلِ إلى قبر الخليل، ومحنته بسبب ذلك:
من البدع التي سادت المجتمع وقتئذ، وتقرب الناس بها إلى الله: بدعة شَدِّ الرَّحْلِ إلى قبر الخليل إبراهيم عليه السلام، فقام ابن القَيِّم - رحمه الله - في وجه هذه البدعة منكرًا لها، ومبينًا مخالفتها لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهَدْيِه، فما كان من أعدائِه وشانئيه إلا أن قاموا ضِدَّه، وآذوه، ثم حُبِس بسبب ذلك، قال الحافظ الذهبي: "وقد حبس مدة وأوذي لإنكاره شدَّ الرحل إلى قبر الخليل".
والظاهر أن هذه هي المرة التي حبس فيها مع شيخه ابن تَيْمِيَّة رحمه الله؛ ذلك أنه في السادس عشر من شعبان سنة 726هـ اعْتُقِل الشيخ ابن تَيْمِيَّة في قلعة دمشق، وذلك بسبب ما أفتى به من المنع من شد الرحل إلى قبور الأنبياء، وبعد ذلك بأيام "أمر قاضي القضاة الشافعي في حبس جماعة من أصحاب الشيخ تقي الدين في سجن الحكم... وعزَّرَ جماعة منهم على دواب ونودي عليهم، ثمَّ أطلقوا، سوى شمس الدين محمد بن قيم الجوزية؛ فإنه حُبِس بالقلعة، وسكتت القضية".
ولعل في إطلاقهم كل رفاقه وإبقائه وحده في الحبس، ما يُبَيِّنُ لنا مدى الحِنْق الذي كان في نفوس أعدائه - من أهل البدع - ضده، ويبين لنا في الوقت نفسه، ما كان لابن القَيِّم من دور بارز، وتأثير بالغ في الناس آنذاك، مما جعل هؤلاء يخشونه على بدعهم، فرأوا أن يحجبوه في السجن، ولكن شاء الله سبحانه أن يشاطر ابن القَيِّم شيخه محنته هذه، فَسُجن معه في القلعة، ولأجل التهمة نفسها، ولكنه كان (منفردًا عنه).
ولقد كان للحاقدين على شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة وتلميذه ابن القَيِّم دورٌ قبيح في حبسهما، وتدبير الشر ضدهما، ذلك أنهم حرَّفوا فتوى ابن تَيْمِيَّة: بأنه يُحَرِّمُ زيارة قبور الأنبياء مطلقًا، ويعتبر ذلك معصية، مع أن الشيخ - وكذا تلميذه - "لم يمنع الزيارة الخالية عن شد الرحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك... ولا قال إنها معصية... ولا هو جاهل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة ". والله سبحانه لا يخفى عليه شيء ولا تخفى عليه خافية"2.
ويَحكي المقريزي هذه الواقعة -مبينًا ملابساتها وظروفها- بأوسع من هذا، وأن ابن القَيِّم رحمه الله قد ضُرب في هذه المرة قبل أن يُحبس، فيقول: "وفي يوم الاثنين سادس شعبان - يعني سنة 726هـ- حُبِس تقي الدين أحمد بن تيمية، ومعه أخوه زين الدين عبد الرحمن بقلعة دمشق، وضُرِب شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قَيِّم الجوزية، وشُهِّرَ به على حمار بدمشق، وسبب ذلك: أن ابن قَيِّم الجوزية تكلم بالقدس في مسألة الشفاعة والتوسل بالأنبياء، وأنكر مجرد القصد للقبر الشريف دون قصد المسجد النبوي، فأنكر المقادسة عليه مسألة الزيارة، وكتبوا فيه إلى قاضي القضاة جلال الدين القزويني وغيره من قضاة دمشق.
وكان قد وقع من ابن تَيْمِيَّة كلام في مسألة الطلاق بالثلاث: (أنه لا يقع بلفظ واحد، فقام عليه فقهاء دمشق، فلما وصلت كتب الْمَقَادِسَة في ابن القَيِّم، كتبوا في ابن تَيْمِيَّة وصاحبه ابن القَيِّم إلى السلطان، فعرف شمس الدين الحريري - قاضي القضاة الحنفية بديار مصر- بذلك، فشَنَّع على ابن تَيْمِيَّة تشنيعًا فاحشًا، حتى كتب بحبسه، وضُرِبَ ابن القَيِّم).
وقد ظل ابن القَيِّم محبوسًا مدة، ولم يُفْرَج عنه إلا بعد وفاة شيخه بشهر؛ ذلك أن ابن تَيْمِيَّة قد توفي في محبسه بالقلعة في العشرين من ذي القعدة سنة (728هـ)، (وفي يوم الثلاثاء عشرين ذي الحجة أُفرج عن الشيخ الإمام العالم العلامة أبي عبدالله شمس الدين بن قَيِّم الجوزية).
- فتواه بجواز السباق بغير مُحَلِّل ومحنته بسبب ذلك:
كان ابن القَيِّم رحمه الله يُفتي بجواز إجراء السباق بين الخيل بغير مُحَلِّل، وَصَّنف في ذلك كتابه: (بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال) أو: (بيان الدليل على استغناء المسابقة عن التحليل). كما أنه تناول هذا الموضوع في بحث طويل مفيد ضمن كتابه (الفروسية)4.
وقد أشار ابن حجر إلى محنته هذه، فقال: "وجرت له محن مع القضاة، منها: في ربيع الأول - يعني سنة 746هـ - طلبه السبكي بسبب فتواه بجواز المسابقة بغير مُحَلِّل، فأنكر عليه وآل الأمر إلى أنه رجع عما كان يُفتي به من ذلك".
وحكى ابن كثير هذه الحادثة، ولكنه ذكر ما يفيد أن ابن القَيِّم كان يفتي في ذلك برأي شيخه، وصَنَّف هذا المصنف لنصرة رأي الشيخ، ثم صار يفتي به دون نسبته إلى شيخه، فظنوه قوله، فحصل له ما حصل، ثم (انفصل الحالُ على أن أظهر الشيخ شمس الدين... الموافقة للجمهور).
قال الشيخ بكر أبو زيد: "وقضية الرجوع محل نظر، فلابد من تثبيت ذلك، وأرجو من الله تعالى أن يمنَّ عليَّ بما يدل على ذلك، نفيًا أو إثباتًا".
قلت: أما كتبه التي بين أيدينا، فليس فيها ما يدل على رجوعه، وبخاصة كتاب (الفروسية)، ولكن ابن كثير يحكي ما شاهده بنفسه من إظهاره الموافقة للجمهور، فهل أظهر ابن القَيِّم ذلك دفعًا للشر عن نفسه دون أن يرجع حقيقة عن رأيه؟ الله أعلم.
والذي يهمنا في هذه القضية: أن ابن القَيِّم - رحمه الله - قد امتحن من القضاة بسببها، وأوذي في سبيل ذلك.
- فتواه في مسألة الطلاق الثلاث ومحنته بسبب ذلك:
وقد امتحن ابن القَيِّم مرة أخرى بسبب فتواه بأن الطلاق الثلاث بكلمة واحدة يقع طلقة واحدة، وهو اختيار شيخه ابن تَيْمِيَّة أيضًا.
ويشير ابن كثير إلى ما وقع له بسبب ذلك، فيقول: "وقد كان متصديًا للإفتاء بمسألة الطلاق التي اختارها الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وجرت بسببها فُصُولٌ يطول بسطها مع قاضي القضاة تقي الدين السبكي وغيره"1.
ولم يبين لنا ابن كثير ما وقع له بسب ذلك، لكن الظاهر أنه لم يُحْبَس إلا في المرة التي كان فيها مع شيخه ابن تَيْمِيَّة، وذلك بسبب فتوى شد الرحل، وأما مسألة الطلاق، وكذا مسألة المحلل في السباق، فيظهر أنه جرت له بسببهما فتن ومحن مع القضاة فحسب، وأنه لم يُسجن بسبب ذلك، وقد ذكر الشيخ بكر أبو زيد أنه سُجن بسبب هذه الفتاوى كلها.
ولم أر ما يدل على ذلك، ولعل كلام ابن رجب صريح في أنه لم يُحبس إلا في تلك المرة مع الشيخ، فقد قال: "وقد امتُحن وأُوذي مرات، وحُبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة في القلعة...".
ومما يؤكد أيضًا أن فتواه في مسألة الطلاق قد سببت له مشكلات مع القضاة، ما حكاه الحافظ ابن كثير من الصلح الذي تم بين السبكي وابن القَيِّم، فقد ذكر في أحداث سنة 750هـ - قبل موت ابن القَيِّم بعام واحد في السادس عشر من شهر جمادى الآخرة منها، أنه "حصل الصلح بين قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وبين الشيخ شمس الدين بن قَيِّم الجوزية، على يدي الأمير سيف الدين بن فضل ملك العرب، في بستان قاضي القضاة، وكان قد نقم عليه إكثاره من الفتيا بمسألة الطلاق".
فالمقصود أنه رحمه الله ابتلي وأوذي وامتحن بسبب صدعه بالحق، وإعلانه رأيه وما يعتقده دون مجاملة أو خوف من أحد، فرحم الله ابن القَيِّم رحمة واسعة، وجزاه عما قَدَّم خير الجزاء.
وفاة ابن القيم:
وبعد هذه الحياة الحافلة بالجهاد المتصل لنشر منهج السلف، ومحاربة كثير من الانحرافات التي ابتدعها الخلف، وما لقيه من محن في سبيل ذلك، وبعد أن كَمُلَ له من العمر ستون سنة، توفي هذا الإمام العالم العلامة، وذلك في ليلة الخميس، ثالث عشر من شهر رجب، من سنة إحدى وخمسين وسبعمائة (751هـ) وقت أذان العشاء.
وقد صُلِّيَ عليه رحمه الله من الغد عقب صلاة الظهر بالجامع الأموي، ثم بجامع جَرَّاح، ولأن ابن القَيِّم رحمه الله كان قائمًا لله بالحق، صادقًا في النصح للخلق فقد "كانت جنازته حافلة رحمه الله، شهدها القضاة والأعيان والصالحون، من الخاصة والعامة، وتزاحم الناس على حمل نعشه".
نعم لقد كانت جنازته حافلة عامرة، شهدها كثير من الخلق، كما كانت جنازة شيخه رحمه الله، التي لم يتخلف عنها من أهل دمشق سوى ثلاثة نفر، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز"، كانت هذه جنازته رحمه الله مع ما كان له في قلوب الكثيرين من العداوات، ومع ما حِيَكَ ضده من المؤامرات، وَدُفِنَ رحمه الله عند والدته بمقابر الباب الصغير.