قال الله تعالى واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم
معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون [ يس : 13 - 29 ] . [ ص: 11 ] اشتهر عن كثير من السلف والخلف أن هذه القرية أنطاكية . رواه ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس ، وكعب الأحبار ، ووهب بن منبه . وكذا روي عن بريدة بن الحصيب ، وعكرمة ، وقتادة ، والزهري ، وغيرهم . قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس ، وكعب ، ووهب أنهم قالوا : وكان لها ملك اسمه أنطيخس بن أنطيحس ، وكان يعبد الأصنام ، فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل ; وهم صادق ، وصدوق ، وشلوم ، فكذبهم . وهذا ظاهر أنهم رسل من الله عز وجل . وزعم قتادة أنهم كانوا رسلا من المسيح . وكذا قال ابن جريج ، عن وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي : كان اسم الرسولين الأولين : شمعون ويوحنا ، واسم الثالث بولس ، والقرية أنطاكية . وهذا القول ضعيف جدا ; لأن أهل أنطاكية لما بعث إليهم المسيح ثلاثة من الحواريين ، كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت ، ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي يكون فيها بطارقة النصارى ; وهن أنطاكية والقدس وإسكندرية ، ورومية . ثم بعدها إلى القسطنطينية ولم يهلكوا ، وأهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا ، [ ص: 12 ] كما قال في آخر قصتها بعد قتلهم صديق المرسلين واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورون في القرآن ، بعثوا إلى أهل أنطاكية قديما ، فكذبوهم وأهلكهم الله ثم عمرت بعد ذلك ، فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله إليهم ، فلا يمنع هذا . والله أعلم . فأما القول بأن هذه القصة المذكورة في القرآن هي قصة أصحاب المسيح ، فضعيف ; لما تقدم ، ولأن ظاهر سياق القرآن يقتضي أن هؤلاء الرسل من عند الله .
قال الله تعالى واضرب لهم مثلا يعني : لقومك يا محمد أصحاب القرية يعني المدينة إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث أي ; أيدناهما بثالث في الرسالة فقالوا إنا إليكم مرسلون فردوا عليهم بأنهم بشر مثلهم ، كما قالت الأمم الكافرة لرسلهم ، يستبعدون أن يبعث الله نبيا بشريا ، فأجابوهم بأن الله يعلم أنا رسله إليكم ، ولو كنا كذبنا عليه لعاقبنا وانتقم منا أشد الانتقام وما علينا إلا البلاغ المبين أي; إنما علينا ، أي نبلغكم ما أرسلنا به إليكم ، والله هو الذي يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء قالوا إنا تطيرنا بكم أي ; تشاءمنا بما جئتمونا به لئن لم تنتهوا لنرجمنكم قيل بالمقال . وقيل بالفعال . ويؤيد الأول قوله وليمسنكم منا عذاب أليم توعدوهم بالقتل والإهانة . قالوا طائركم معكم أي ; مردود [ ص: 13 ] عليكم أإن ذكرتم أي ; بسبب أنا ذكرناكم بالهدى ودعوناكم إليه ، توعدتمونا بالقتل والإهانة بل أنتم قوم مسرفون أي ; لا تقبلون الحق ، ولا تريدونه .
وقوله تعالى وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى يعني : لنصرة الرسل ، وإظهار الإيمان بهم قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون أي ; يدعونكم إلى الحق المحض ، بلا أجرة ولا جعالة . ثم دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهاهم عن عبادة ما سواه ، مما لا ينفع شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة إني إذا لفي ضلال مبين أي ; إن تركت عبادة الله وعبدت سواه . ثم قال مخاطبا للرسل إني آمنت بربكم فاسمعون قيل : فاستمعوا مقالتي ، واشهدوا لي بها عند ربكم . وقيل : معناه فاسمعوا يا قومي إيماني برسل الله جهرة . فعند ذلك قتلوه . قيل : رجما . وقيل : عضا . وقيل : وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه . وحكى ابن إسحاق عن بعض أصحابه ، عن ابن مسعود قال : وطئوه بأرجلهم حتى أخرجوا قصبه .
وقد روى الثوري ، عن عاصم الأحول ، عن أبي مجلز : كان اسم هذا الرجل حبيب بن مرى . ثم قيل : كان نجارا . وقيل : حبالا . وقيل : إسكافا . وقيل : قصارا . وقيل : كان يتعبد في غار هناك . فالله أعلم . وعن ابن عباس : كان حبيب النجار قد أسرع فيه الجذام ، وكان كثير الصدقة ، قتله قومه . [ ص: 14 ] ولهذا قال تعالى ادخل الجنة يعني : لما قتله قومه أدخله الله الجنة ، فلما رأى ما فيها من النضرة والسرور قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين يعني : ليؤمنوا بما آمنت به ، فيحصل لهم ما حصل لي . قال ابن عباس : نصح قومه في حياته يا قوم اتبعوا المرسلين وبعد مماته يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين رواه ابن أبي حاتم . وكذلك قال قتادة : لا تلقى المؤمن إلا ناصحا ، لا تلقاه غاشا ، لما عاين ما عاين من كرامة الله قال : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين تمنى على الله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وما هجم عليه . قال قتادة فلا والله ، ما عاتب الله قومه بعد قتله إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون .
وقوله تعالى وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين أي ; ما احتجنا في الانتقام منهم إلى إنزال جند من السماء عليهم . هذا معنى ما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه ، عن ابن مسعود . وقال مجاهد وقتادة : وما أنزل عليهم جندا ، أي رسالة أخرى . قال ابن جرير : والأول أولى . قلت : وأقوى . ولهذا قال وما كنا منزلين [ ص: 15 ] أي ; وما كنا نحتاج في الانتقام إلى هذا ، حين كذبوا رسلنا وقتلوا ولينا إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون .
قال المفسرون : بعث الله إليهم جبريل ، عليه السلام ، فأخذ بعضادتي الباب الذي لبلدهم ، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون أي ; قد أخمدت أصواتهم ، وسكنت حركاتهم ، ولم يبق منهم عين تطرف . وهذا كله مما يدل على أن هذه القرية ليست أنطاكية ; لأن هؤلاء أهلكوا بتكذيبهم رسل الله إليهم ، وأهل أنطاكية آمنوا ، واتبعوا رسل المسيح من الحواريين إليهم ; فلهذا قيل : إن أنطاكية أول مدينة آمنت بالمسيح . فأما الحديث الذي رواه الطبراني ، من حديث حسين الأشقر ، عن سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : السبق ثلاثة ; فالسابق إلى موسى يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى صاحب يس ، والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب فإنه حديث لا يثبت ; لأن حسينا هذا متروك ، وشيعي من الغلاة ، وتفرده بهذا مما يدل على ضعفه بالكلية.
والله تعالى أعلم