فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ﴿٣٣﴾ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴿٣٤﴾ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴿٣٥﴾وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴿٣٦﴾ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴿٣٧﴾
بن كثير
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : الصَّاخَّة اِسْم مِنْ أَسْمَاء يَوْم الْقِيَامَة عَظَّمَهُ اللَّه وَحَذَّرَهُ عِبَادَهُ. قَالَ اِبْن جَرِير لَعَلَّهُ اِسْم لِلنَّفْخَةِ فِي الصُّور وَقَالَ الْبَغَوِيّ : الصَّاخَّة يَعْنِي صَيْحَة يَوْم الْقِيَامَة سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَصُخّ الْأَسْمَاع أَيْ تُبَالِغ فِي إِسْمَاعهَا حَتَّى تَكَاد تُصِمّهَا .
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ
أَيْ يَرَاهُ وَيَفِرّ مِنْهُ وَيَبْتَعِد مِنْهُ لِأَنَّ الْهَوْل عَظِيم وَالْخَطْب جَلِيل
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
قَالَ وَإِنَّ الرَّجُل لَقِيَ اِبْنه فَيَتَعَلَّق بِهِ فَيَقُول يَا بُنَيّ أَيّ وَالِد كُنْت لَك ؟ فَيُثْنِي بِخَيْرٍ فَيَقُول لَهُ يَا بُنَيّ إِنِّي اِحْتَجْت إِلَى مِثْقَال ذَرَّة مِنْ حَسَنَاتك لَعَلِّي أَنْجُو بِهَا مِمَّا تَرَى فَيَقُول وَلَده : يَا أَبَت مَا أَيْسَر مَا طَلَبْت وَلَكِنِّي أَتَخَوَّف مِثْل الَّذِي تَتَخَوَّف فَلَا أَسْتَطِيع أَنْ أُعْطِيك شَيْئًا يَقُول اللَّه تَعَالَى" يَوْم يَفِرّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّه وَأَبِيهِ وَصَاحِبَته وَبَنِيهِ " وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح فِي أَمْر الشَّفَاعَة أَنَّهُ إِذَا طَلَب إِلَى كُلّ مِنْ أُولِي الْعَزْم أَنْ يَشْفَع عِنْد اللَّه فِي الْخَلَائِق يَقُول نَفْسِي نَفْسِي لَا أَسْأَلك الْيَوْم إِلَّا نَفْسِي حَتَّى إِنَّ عِيسَى اِبْن مَرْيَم يَقُول لَا أَسْأَلهُ الْيَوْم إِلَّا نَفْسِي لَا أَسْأَلهُ مَرْيَم الَّتِي وَلَدَتْنِي وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " يَوْم يَفِرّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّه وَأَبِيهِ وَصَاحِبَته وَبَنِيهِ " .
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ
قَالَ عِكْرِمَة : يَلْقَى الرَّجُل زَوْجَته فَيَقُول لَهَا يَا هَذِهِ أَيّ بَعْل كُنْت لَك ؟ فَتَقُول نِعْمَ الْبَعْل كُنْت وَتُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اِسْتَطَاعَتْ فَيَقُول لَهَا فَإِنِّي أَطْلُب إِلَيْك الْيَوْم حَسَنَة وَاحِدَة تَهَبِيهَا لِي لَعَلِّي أَنْجُو مِمَّا تَرَيْنَ فَتَقُول لَهُ مَا أَيْسَر مَا طَلَبْت وَلَكِنِّي لَا أُطِيق أَنْ أُعْطِيك شَيْئًا أَتَخَوَّف مِثْل الَّذِي تَخَاف قَالَ قَتَادَة الْأَحَبّ فَالْأَحَبّ وَالْأَقْرَب فَالْأَقْرَب مِنْ هَوْل ذَلِكَ الْيَوْم .
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
أَيْ هُوَ فِي شُغْل شَاغِل عَنْ غَيْره قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمَّار بْن الْحَارِث حَدَّثَنَا الْوَلِيد بْن صَالِح حَدَّثَنَا ثَابِت أَبُو زَيْد الْعَبَّادَانِيّ عَنْ هِلَال بْن خَبَّاب عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تُحْشَرُونَ حُفَاة عُرَاة مُشَاة غُرْلًا" قَالَ : فَقَالَتْ زَوْجَته يَا رَسُول اللَّه نَنْظُر أَوْ يَرَى بَعْضنَا عَوْرَة بَعْض ؟ قَالَ " لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه " أَوْ قَالَ : مَا أَشْغَلهُ عَنْ النَّظَر " . وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيّ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ أَبِي دَاوُد عَنْ عَارِم عَنْ ثَابِت بْن يَزِيد وَهُوَ اِبْن زَيْد الْأَحْوَل الْبَصْرِيّ أَحَد الثِّقَات عَنْ هِلَال بْن خَبَّاب عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس بِهِ .
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن حُمَيْد عَنْ مُحَمَّد بْن الْفَضْل عَنْ ثَابِت بْن زَيْد عَنْ هِلَال بْن خَبَّاب عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " تُحْشَرُونَ حُفَاة عُرَاة غُرْلًا" فَقَالَتْ اِمْرَأَة أَيُبْصِرُ أَوْ يَرَى بَعْضنَا عَوْرَة بَعْض ؟ قَالَ " يَا فُلَانَة لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه" ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ وَهَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْر وَجْه عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَقَالَ النَّسَائِيّ أَخْبَرَنِي عَمْرو بْن عُثْمَان حَدَّثَنَا بَقِيَّة حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيّ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " يُبْعَث النَّاس يَوْم الْقِيَامَة حُفَاة عُرَاة غُرْلًا " فَقَالَتْ عَائِشَة : يَا رَسُول اللَّه فَكَيْف بِالْعَوْرَاتِ ؟ فَقَالَ " لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه " اِنْفَرَدَ بِهِ النَّسَائِيّ مِنْ هَذَا الْوَجْه ثُمَّ قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم أَيْضًا حَدَّثَنَا أَبِي أَزْهَر بْن حَاتِم حَدَّثَنَا الْفَضْل بْن مُوسَى عَنْ عَائِذ بْن شُرَيْح عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ سَأَلَتْ عَائِشَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُول اللَّه بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنِّي سَائِلَتك عَنْ حَدِيث فَتُخْبِرنِي أَنْتَ بِهِ قَالَ " إِنْ كَانَ عِنْدِي مِنْهُ عِلْم " قَالَتْ يَا نَبِيّ اللَّه كَيْف يُحْشَر الرِّجَال ؟ قَالَ " حُفَاة عُرَاة " ثُمَّ اِنْتَظَرَتْ سَاعَة فَقَالَتْ : يَا رَسُول اللَّه كَيْف يُحْشَر النِّسَاء ؟ قَالَ" كَذَلِكَ حُفَاة عُرَاة " قَالَتْ وَاسَوْأَتَاه مِنْ يَوْم الْقِيَامَة قَالَ " وَعَنْ أَيّ ذَلِكَ تَسْأَلِينَ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ عَلَيَّ آيَة لَا يَضُرّك كَانَ عَلَيْك ثِيَاب أَوْ لَا يَكُون " قَالَتْ أَيَّة آيَة هِيَ يَا نَبِيّ اللَّه ؟ قَالَ " لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه " وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيره أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الشُّرَيْحِيّ أَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم الثَّعْلَبِيّ أَخْبَرَنِي الْحُسَيْن بْن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْعَزِيز حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي أُوَيْس حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّد بْن اِبْن أَبِي عَيَّاش عَنْ عَطَاء بْن يَسَار عَنْ سَوْدَة زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يُبْعَث النَّاس حُفَاة عُرَاة غُرْلًا قَدْ أَلْجَمَهُمْ الْعَرَق وَبَلَغَ شُحُوم الْآذَان " فَقُلْت يَا رَسُول اللَّه وَاسَوْأَتَاه يَنْظُر بَعْضنَا إِلَى بَعْض ؟ فَقَالَ" قَدْ شُغِلَ النَّاس " لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه " هَذَا حَدِيث غَرِيب مِنْ هَذَا الْوَجْه جِدًّا وَهَكَذَا رَوَاهُ اِبْن جَرِير عَنْ أَبِي عَمَّار الْحُسَيْن بْن حُرَيْث الْمَرْوَزِيّ عَنْ الْفَضْل بْن مُوسَى بِهِ وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ عَائِذ بْن شُرَيْح ضَعِيف فِي حَدِيثه ضَعْف .
القرطبي
قوله تعالى: « فإذا جاءت الصاخة » لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما أمتن به عليهم. والصاخة: الصيحة التي تكون عنها القيامة، وهي النفخة الثانية، تصخ الأسماع: أي تصمها فلا تسمع إلا ما يدعى به للأحياء. وذكر ناس من المفسرين قالوا: تصيخ لها الأسماع، من قولك: أصاخ إلى كذا: أي استمع إليه، ومنه الحديث: ( ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة إلا الجن والإنس ) . وقال الشاعر:
يصيخ للنبأة أسماعه إصاخة المنشد للمنشد
قال بعض العلماء: وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء، فأما اللغة فمقتضاها القول الأول، قال الخليل: الصاخة: صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها بشدة وقعتها. وأصل الكلمة في اللغة: الصك الشديد. وقيل: هي مأخوذة من صخه بالحجر: إذا صكه قال الراجز:
يا جارتي هل لك أن تجالدي جلادة كالصك بالجلامد
ومن هذا الباب قول العرب: صختهم الصاخة وباتتهم البائتة، وهي الداهية. الطبري: وأحسبه من صخ فلان فلانا: إذا أصماه. قال ابن العربي: الصاخة التي تورث الصمم، وإنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان:
أَصَمَّ بك الناعي وإن كان أسمعا
وقال آخر:
أَضَمَّني سِرُّهم أيام فرقتهم فهل سمعتم بسر يورث الصمما
لعمر الله إن صيحة القيامة لمسمعة تصم عن الدنيا، وتسمع أمور الآخرة.
قوله تعالى: « يوم يفر المرء من أخيه » أي يهرب، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه؛ أي من موالاة أخيه ومكالمته؛ لأنه لا يتفرغ لذلك، لاشتغاله بنفسه؛ كما قال بعده: « لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه » أي يشغله عن غيره. وقيل: إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه، لما بينهم من التبعات. وقيل: لئلا يروا ما هو فيه من الشدة. وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئا؛ كما قال: « يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا » [ الدخان: 41 ] . وقال عبدالله بن طاهر الأبهري: يفر منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى.
وذكر الضحاك عن ابن عباس قال: يفر قابيل من أخيه هابيل، ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه، وإبراهيم عليه السلام من أبيه، ونوح عليه السلام من ابنه، ولوط من امرأته، وآدم من سوأة بنيه. وقال الحسن: أول من يفر يوم القيامة من، أبيه: إبراهيم، وأول من يفر من ابنه نوح؛ وأول من يفر من امرأته لوط. قال: فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ. « لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه » . في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: [ يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ] قلت، يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: [ يا عائشة، الأم أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض ] . خرجه الترمذي. عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ يحشرون حفاة عراة غرلا ] فقالت امرأة: أينظر بعضنا، أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: [ يا فلانة ] « لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه » . قال: حديث حسن صحيح. وقراءة العامة بالغين المعجمة؛ أي حال يشغله عن الأقرباء. وقرأ ابن محيصن وحميد « يعنيه » بفتح الياء، وعين غير معجمة؛ أي يعنيه أمره. وقال القتبي: يعنيه: يصرفه ويصده عن قرابته، ومنه يقال: أعن عني وجهك: أي أصرفه واعن عن السفيه؛ قال خفاف:
سيعنيك حرب بني مالك عن الفحش والجهل في المحفل