إن خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد استقبل بنشيد يحمل الفرح العظيم بمقدمه هو :
طلــــــــــــع البــــــــــــدر علينــــــــــــا مـــــــــــن ثنيــــــــــــات الــــــــــــوداع
وجــــــــــب الشـــــــــــكر علينـــــــــــا مـــــــــــا دعـــــــــــــا للـــــــــــــه داع
وقد رأيت سؤالاً عن هذا النشيد هل كان حينما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مهاجرًا إليها أم كان بمناسبة لقاء أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح ، أم عند عودته من غزوة تبوك ؟ فكان ذلك مما حملني على البحث عن هذه الناحية فتحصلت على ما أسرده مع بيان مستند كل قول وتعقيب ما يحتاج إلى التعقيب فيما يلي :
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 298)
إن هذا النشيد كان عند مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة مهاجرًا إليها ، روى ذلك البيهقي فِي " دلائل النبوة " وابن المقري فِي " الشمائل " وأبو سعد فِي " شرف المصطفى " والخلعي فِي " فوائده " ولفظ البيهقي : أخبرنا أبو عمرو الأديب أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي سمعت أبا خليفة يقول سمعت ابن عائشة يقول : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة جعل النساء والصبيان يقلن :
طلــــــــــــع البــــــــــــدر علينــــــــــــا مـــــــــــن ثنيــــــــــــات الــــــــــــوداع
وجــــــــــب الشـــــــــــكر علينـــــــــــا مـــــــــــا دعـــــــــــــا للـــــــــــــه داع
وقال أيضًا : أخبرنا أبو نصر بن قتادة أخبرنا أبو عمرو بن مطر سمعت أبا خليفة يقول : سمعت ابن عائشة يقول : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن :
طلــــــــــــع البــــــــــــدر علينــــــــــــا مـــــــــــن ثنيــــــــــــات الــــــــــــوداع
وجــــــــــب الشـــــــــــكر علينـــــــــــا مـــــــــــا دعـــــــــــــا للـــــــــــــه داع
ثم قال البيهقي : " وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمه المدينة من مكة وقد ذكرناه إلا أنه إنما قدم المدينة من ثنيات الوداع عند مقدمه من تبوك والله أعلم " أ . هـ . كلام البيهقي وممن مال إلى هذا القول الإمام أبو عمر ابن عبد البر قال فِي كلامه على ثنية الوداع " أظنها على طريق مكة ومنها بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وظهر إلى المدينة فِي حين إقباله من مكة " فقال شاعرهم :
طلــــــــــــع البــــــــــــدر علينــــــــــــا مـــــــــــن ثنيــــــــــــات الــــــــــــوداع
وجــــــــــب الشـــــــــــكر علينـــــــــــا مـــــــــــا دعـــــــــــــا للـــــــــــــه داع
نقل ذلك عن ابن عبد البر الحافظ ولي الدين أبو زرعة العراقي فِي " طرح التثريب " ج 7ص 229 .
لكن رواية عبد الله بن محمد المعروف بابن عائشة هذه أعلت بالإعضال وبعبارة أخرى بالانقطاع ، فقد قال الحافظ أبو زرعة العراقي فِي " طرح التثريب فِي شرح التقريب " ج 7ص 240 - 241 " هذا الذي ذكروه
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 299)
أي ابن عبد البر من إنشادهم هذا الشعر عند قدومه - عليه الصلاة والسلام - المدينة رواه البيهقي فِي دلائل النبوة وأبو الحسن المقري فِي كتاب الشمائل له عن ابن عائشة " ثم نقل عن والده الحافظ زين الدين العراقي أنه قال فِي شرح الترمذي " كلام ابن عائشة - أي المذكور - معضل لا تقوم به حجة " أ . هـ . وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني فِي " فتح الباري " ج 7 ص 209 شرح باب مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة قال " أخرج أبو سعد فِي شرف المصطفى ورويناه فِي فوائد الخلعي عن طريق عبيد الله بن عائشة منقطعًا لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة جعل الولائد يقلن :
طلــــــــــــع البــــــــــــدر علينــــــــــــا مـــــــــــن ثنيــــــــــــات الــــــــــــوداع
وجــــــــــب الشـــــــــــكر علينـــــــــــا مـــــــــــا دعـــــــــــــا للـــــــــــــه داع
وهو سند معضل ولعل ذلك كان فِي قدومه من غزوة تبوك " أ . هـ . ثم قال الحافظ فِي شرح قول السائب بن يزيد " أذكر أني خرجت مع الغلمان إلى ثنية الوداع نتلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فِي باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر " قال فِي فتح الباري " ج 8 ص 105 بمناسبة إيراد البخاري قول السائب المذكور ( قد روينا بسند منقطع فِي الخلعيات قول النسوة لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة :
طلــــــــــــع البــــــــــــدر علينــــــــــــا مـــــــــــن ثنيــــــــــــات الــــــــــــوداع
فقيل ذلك عند قدومه فِي الهجرة - وقيل عند قدومه من غزوة تبوك " أ . هـ .
هذا ما قرره الحافظان زين الدين العراقي وابن حجر العسقلاني حول رواية ابن عائشة هذه وهو الصواب ما وقع للمحب الطبري فِي " الرياض النضرة فِي مناقب العشرة " ج 1 ص106 - حيث قال : " عن ابن الفضل بن الحباب الجمحي قال سمعت ابن عائشة يقول أراه عن أبيه قال : لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة جعل الصبيان والنساء والولائد يقولون :
طلــــــــــــع البــــــــــــدر علينــــــــــــا مـــــــــــن ثنيــــــــــــات الــــــــــــوداع
وجــــــــــب الشـــــــــــكر علينـــــــــــا مـــــــــــا دعـــــــــــــا للـــــــــــــه داع
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 300)
خرجه الحلواني على شرط الشيخين " أ . هـ . نص الرياض النضرة . فقد تعقب الزرقاني فِي شرح المواهب اللدنية للقسطلاني ج 1 ص 359 قول المحب الطبري أن سند هذه الرواية على شرط الشيخين تعقبه قوله : " وفيه مغمز فالشيخان لم يخرجا لابن عائشة فلا يكون على شرطهما ولو صح الإسناد إليه " أ . هـ .
الثاني من أقوال العلماء فِي وقت إنشاد هذا النشيد " طلع البدر علينا " أن إماء أهل مكة قلنه فِي رجوعهم عند لقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وأن الوداع مراد بمكة ، نقل ذلك القاضي عياض فِي " مشارق الأنوار على صحاح الآثار ج 1 ص 136 عن كتاب ابن المظفر وتعقبه القاضي عياض بأنه خلاف ما قاله غيره من أن نساء المدينة قلنه عند دخوله المدينة وقال : والأول أصح لذكر نساء الأنصار ذلك عند مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة فدل أنه اسم قديم لها ، وقال بينها وبين الحفياء ستة أميال أو سبعة عند ابن عقبة وخمسة أو ستة عند سفيان " أ . هـ . كلام القاضي عياض ونقله عنه نور الدين علي بن أحمد السمهودي فِي " وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى " ج 2 ص 1170 - 1171 .
الثالث من الأقوال فِي تاريخ هذا النشيد " طلع البدر علينا " أنه عند مقدم خير الخلق - صلى الله عليه وسلم - المدينة من غزوة تبوك ، وتقدم ما يدل على اختيار البيهقي هذا القول ، وهو أنه قال بعد ذكر القول بأن هذا النشيد عند مقدمه - صلى الله عليه وسلم - المدينة مهاجرًا قال : " هذا يذكره علماؤنا عند مقدمه المدينة وقد ذكرناه عنده إلا أنه إنما قدم المدينة من ثنيات الوداع عند مقدمه من تبوك والله أعلم " . أ . هـ . وإلى هذا القول قال الإمام ابن القيم فِي " زاد المعاد " قال : " فلما دنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة راجعًا من تبوك خرج الناس لتلقيه وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن :
طلــــــــــــع البــــــــــــدر علينــــــــــــا مـــــــــــن ثنيــــــــــــات الــــــــــــوداع
وجــــــــــب الشـــــــــــكر علينـــــــــــا مـــــــــــا دعـــــــــــــا للـــــــــــــه داع
وبعض الرواة يهم فِي هذا ويقول إنما كان ذلك عند مقدمه المدينة من مكة وهو وهم ظاهر لأن ثنيات الوداع إنما هي من جهة الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام " أ . هـ . كلام ابن القيم .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 301)
وأيد الحافظ أبو زرعة العراقي فِي " طرح التثريب " ج 7 ص240 هذا القول فِي صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي عن السائب بن يزيد قال : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك خرج الناس يتلقونه إلى ثنية الوداع .
قال أبو زرعة وهذا صريح فِي أنها من جهة الشام قال : " ولهذا لما نقل والدي - رحمه الله - فِي شرح الترمذي كلام ابن بطال رأى فِي ذلك قال : إنه وهم قال : وكلام ابن عائشة معضل لا تقوم به حجة " أ . هـ .
قلت - القائل إسماعيل الأنصاري - : مما جاء بصدد كون هذا النشيد إثر قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعض غزواته رواه بن حبان فِي صحيحه قال كما فِي " موارد الظمآن " وزوائد ابن حبان " ص 493 - 494 أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة حدثنا زياد بن أيوب حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح حدثني الحسين بن واقد حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بعض مغازيه فجاءت جارية سوداء فقالت : يا رسول الله إني نذرت إن ردك الله سالمًا أن أضرب على رأسك بالدف . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن نذرت فافعلي وإلا فلا فقالت : إني كنت نذرت . فقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضربت بالدف وقالت :
أشـــــــــــرق البـــــــــــدر علينـــــــــــا مـــــــــــن ثنيــــــــــــات الــــــــــــوداع
وجــــــــــب الشـــــــــــكر علينـــــــــــا مـــــــــــا دعـــــــــــــا للـــــــــــــه داع
وقد سلك المؤيدون للقول الأول فِي الإجابة عما أورده الإمام ابن القيم والحافظ ولي الدين العراقي المسالك التالية :
1 - ما ذكره العلامة الشيخ حسين محمد بن حسين الديار بكري فِي الجزء الأول من تاريخ " الخميس فِي أحوال أنفس نفيس " فقد قال إثر كلامهما ص 342 ( لكن قال زين الدين العراقي - أي والد ولي الدين - : يحتمل أن تكون التثنية التي من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها ثنية الوداع . انتهى . قال مؤلف الكتاب - يعني الديار نفسه - : يشبه أن يكون هذا هو الحق ويؤيده جمع الثنيات إذ لو كان المراد بها الموضع الذي هو من جهة الشام لم يجمع ولا مانع من تعدد وقوع هذا الشعر عند قدومه - عليه الصلاة والسلام - من مكة ومرة عند قدومه من تبوك ، فلا ينافي ما فِي صحيح البخاري وغيره - أي الذي استدل به العراقي وقد تقدم - ولا ما قاله " ابن القيم " أ . هـ . وقد نقله عنه الزرقاني فِي شرح المواهب اللدنية ج 1 ص300 وصرح فِي
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 302)
الجزء الثالث ص 82 بما نصه " لا مانع من تعدد وقوع هذا الشعر مرة عند الهجرة ومرة عند قدومه من تبوك فلا يحكم بغلط ابن عائشة لأنه ثقة " أ . هـ .
2 - أن كون ثنية الوداع شمال المدينة لا يمنع كون ذلك النشيد عند مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها للهجرة لأنه - صلى الله عليه وسلم - ركب ناقته وأرخى لها زمامها وقال : دعوها فإنها مأمورة ومر بدور الأنصار حتى مر ببني ساعدة ودارهم فِي شمال المدينة قرب ثنية الوداع فلم يدخل باطن المدينة إلا من تلك الناحية حتى أتى منزله بها ، وقد عرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي رجوعه من بدر إلى ثنية الوداع كما فِي مغازي ابن عقبة أنه - صلى الله عليه وسلم - سلك حين خرج إلى بدر حتى ثقب بني دينار ورجع حين رجع من ثنية الوداع . وهذا جواب نور الدين علي بن أحمد السمهودي فِي " وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى " ج 4 ص 1170 عن كلام ابن القيم فِي زاد المعاد المتقدم واستحسنه الزرقاني فِي شرح المواهب اللدنية ج 1 ص 360 واعتمد عليه فِي نفي الوهم عن ابن عائشة الذي عناه ابن القيم فِي عبارة " زاد المعاد " ببعض الرواة ، قال الزرقاني : " هو جواب حسن وإن كان شيخنا البابلي - رحمه الله - يستبعده بأنه يلزم عليه أن يمر ويرجع على قباء ثانيًا فلا بعد فيه ولو لزم ذلك لإرخائه زمام الناقة وكونها مأمورة " .
3 - مسلك المجد الفيروزابادي فإنه قال بعد أن نقل عن أهل السير والتاريخ وأصحاب المسالك ثنية الوداع من جهة مكة قال : " وأهل المدينة اليوم يظنونها من جهة الشام " . وكأنهم اعتمدوا قول ابن قيم الجوزية فِي هديه فإنه قال : " من جهة الشام ثنيات الوداع ولا يطأها القادم من مكة البتة ، ووجه الجمع أن كلتا الثنيتين تسمين بثنية الوداع " أ . هـ . كلام المجد وقد تعقبه السمهودي فِي " وفاء الوفاء " ج 4 ص 1172 بقوله : " والظاهر أن مستند من جعلها من جهة مكة ما سبق من قول النسوة وأن ذلك عند القدوم من الهجرة مع الغفلة عما قدمناه من توجيهه وهو فِي الحقيقة حجة لمن ذكرها فِي جهة الشام ، ولم أر لثنية الوداع ذكرًا فِي سفر من الأسفار التي بجهة مكة " ثم قال السمهودي : " وإن سلم الجمع الذي ذكره المجد من الثنيتين يسمى بذلك ، فالمراد من الأخبار المتقدمة كلها الموضع المتقدم بيانه فِي شمال المدينة ، وكذلك من حديث السباق فِي أمد الخيل المضمرة أنه من الغامة أو الحفيا إلى ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق لانطباق المسافة المذكورة فِي ذلك على الموضع المتقدم كما سبق فِي مسجد بني زريق كما سيأتي فِي الحفيا ، مع أن ما بين بني زريق وثنية المدرج لا يصلح للسباق أصلاً وهو على نحو ضعفي ما ذكروه فِي المسافة " أ . هـ . كلام السمهودي .
هذه مسالك العلماء فِي وقت إنشاد ذلك النشيد العظيم أضعها بين يدي القارئ مقرونًا كل مسلك منها بما يحتاج إليه من البحث ، وأرجو أن يكون فِي ذلك ما يمكنه من ترجيح ما يرى ترجيحه حسب الأدلة ، والله ولي التوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل .