قال الله تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا.
قال ابن الجوزي: في «الجبت» سبعة أقوال .
أحدها : أنه السّحر ، قاله عمر بن الخطاب ، ومجاهد ، والشعبي . والثاني : الأصنام ، رواه عطية ، عن ابن عباس . وقال عكرمة : الجبت : صنم . والثالث : حيي بن أخطب ، رواه ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، والفراء . والرابع : كعب بن الأشرف ، رواه الضحاك ، عن ابن عباس ، وليث عن مجاهد . والخامس : الكاهن ، روي عن ابن عباس ، وبه قال ابن سيرين ، ومكحول . والسادس : الشيطان ، قاله سعيد بن جبير في رواية ، وقتادة ، والسدي . والسابع : الساحر ، قاله أبو العالية ، وابن زيد . وروى أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : الجبت : الساحرُ بلسان الحبشة. (زاد المسير في علم التفسير-سورةالنساء)
ذلك مانجده في معنى الجبت عندالمفسرين، وهي نفس المعاني التي توجد عند أئمة اللغة، وتلك المعاني التي ذكروها لاتستند إلى دليل، وهي نسبت إلى بعض الصحابة من غير إسناد، فلاحجة فيها.
وإذا رجعنا إلى القرآن، وأنعمنا النظر في آية الجبت، وجدنا أن القرآن لم يذكر الجبت إلامرة واحدة، ولم يذكره إلا مقرونا بالطاغوت، وأماالطاغوت فقد ورد ذكره في القرآن ثماني مرات.
وكلما ذكر الطاغوت ذكر في مقابل لفظ الجلالة، وهذا يذهب بنا إلى القول بأن كل قوة معادية لله، وكل دولة محاربة لدينه تدخل في مسمى (الطاغوت).
والطاغوت ليس واحدا، فلكل قوم طاغوت، ولكل قُطرطاغوت، ولكل عصر طاغوت، وقد يكون الطاغوت في صورة شيطان واحد، وقد يكون في صورة عصابة من الشياطين.
وإذا كانت القوة الحاكمة المحاربة لله ولدينه هي الطاغوت، فالجبت هو القانون، أوالنظام، أوالشريعة التي يحكم بها الطاغوت.
ولذلك كان التحاكم إلى الطاغوت، لا إلى الجبت، حيث قال تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ( سورةالنساء:60)
والجبت لايكون واحدا،كماأن الطاغوت لايكون واحدا.
فالشرائع الجاهلية، التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي تقوم عليها المجتمعات الجاهلية، والأنظمة الجاهلية، والحكومات الجاهلية، كلها يطلق عليها لفظ (الجبت).
فأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا في حرب مع شريعة الله؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالطاغوت، وكانوا يؤمنون بالجبت ، وهي شريعة الطاغوت، فكانوا يؤيدون الكفار ضد المؤمنين، وكانوا يشجعونهم على شركهم، وكانوا ينوّهون بشأنهم، ويقولون حسدا وبغيا: (هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا)
والسورة التي ورد فيها ذكر الجبت هي سورة النساء، وهي عبارة عن مجموعة كبيرة من شرائع الله، وهي أقضّت على أهل الكتاب مضاجعهم،لأنها كانت رداً وإبطالاً لجبتهم، ونسخت كثيرا من بدعهم وأهوائهم.
ويمكن أن نستأنس هنا لمعنى الجبت بما روي عن نبينا عليه الصلاة والسلام، أنه قال: ( العيافة والطيرة والطرق من الجبت )
(صحيح ابن حبان-كتاب النجوم والأنواء:13/502/6131- مؤسسة الرسالة - الطبعة الثانية: 1414ه،بيروت)
فذكر ثلاثة امور، وهي من أمور الجاهلية، أومن الشرائع الجاهلية، وقال إنها من الجبت، والشرائع الجاهلية كلها من الجبت.
فهذا ما توصلنا إليه في معنى (الجبت) من خلال التأمل في نظم الآيات وجوّ السورة، وهو واضح ساطع لالبس فيه ولا غموض، ولايضرنا إن كانت المعاجم والقواميس ساكتة عن هذا المعنى، مادام أن الآيات هي التي أرشدتنا إليه.
فقد اختلف في الجبت والطاغوت. روى
البخاري تعليقا: قال جابر: كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها في جهينة واحدة، وفي أسلم واحد. وفي كل حي واحد كهان ينزل عليهم الشيطان. وقال عمر: الجبت السحر والطاغوت الشيطان. وقال عكرمة: الجبت بلسان الحبشة شيطان والطاغوت الكاهن. وفي فتح الباري تفسيرات أخرى كثيرة للجبت والطاغوت منها: الجبت الشيطان، والطاغوت الكاهن، وقيل: الجبت الأصنام، والطواغيت الذين كانوا يعبرون عن الأصنام بالكذب، وقيل الجبت الكاهن والطاغوت رجل من اليهود يدعى كعب بن الأشرف، وقيل: الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف.