قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }[ فصلت30 ] فما أعظمه من فضل وما أشرفها من منزلة , وكفى بها مبتغى , ثم الصلاة والسلام على خير الورى , خير من استقام وبها أمر فقال : «قُلْ آمَنْتُ بِالله ثُمَّ اسْتَقِمْ ».
وما أحوجنا للاستقامة خاصة بعد اهتزاز ثوابت الاستقامة عند البعض , فمنا من يحتاج إلى استقامة ومنا من يحتاج إلى تجديد الاستقامة ومتابعة النفس من زيغها وتهاونها وتساهلها ولكم بكى بعدما حكى زماننا اليوم نماذج ممن زاغت قلوبهم فانتكسوا بعدما استقاموا وحاروا بعدما كاروا , فنسأل الله الثبات والسداد والزيادة ونعوذ به من الحور بعد الكور والنكوص بعد الاستقامة , وضمن جولتنا في التعليق على صحيح مسلم , اخترت لك أخي الحبيب هذا الحديث وفيه شيء من مباحث الاستقامة , فإليك رعاك الله :
عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الله الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً، لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحدا بَعْدَكَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ غَيْرَكَ قَالَ: «قُلْ آمَنْتُ بِالله ثُمَّ اسْتَقِمْ» .
أولاً: تخريج الحديث :
الحديث أخرجه مسلم، في " كتاب الإيمان " " باب جامع أوصاف الإسلام " حديث (38)، و انفرد به عن البخاري، و أخرجه الترمذي في "كتاب الزهد" "باب ما جاء في حفظ اللسان" حديث (2410)، و أخرجه ابن ماجه في "كتاب الفتن" "باب كف اللسان في الفتنة" حديث (3972)
ثانياً: شرح ألفاظ الحديث :
( قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحدا بَعْدَكَ ): أي قولاً لا أحتاج إلى أحد بعدك يفسره لي فأعمل بما تقول و أكتفي به.
ثالثاً: من فوائد الحديث :
الفائدة الأولى : الحديث دليل على حرص الصحابة رضوان الله عليهم على العلم و سؤال النبي صلى الله عليه و سلم عن أهم الأعمال و أحكمها و على تعلم الدين.
الفائدة الثانية : حديث الباب من جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه و سلم، ففي هذين الأمرين جمع النبي الدين كله و لذا بوَّب النووي عليه بـ "باب جامع أوصاف الإسلام "، فالحديث شمل عمل القلب وهو الإيمان، و عمل الجوارح و هي الاستقامة، فهو شامل للظاهر و الباطن.
الفائدة الثالثة : الحديث دليل على أن جماع الخير في الاستقامة بعد الإيمان و لأن شأنها عظيم أرشد النبي صلى الله عليه و سلم لها حينما سأله عن شيء جامع، و جواب النبي صلى الله عليه وسلم هو الموافق لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. [الأحقاف: 13].
ويتلخص الحديث عن الاستقامة في المباحث الآتية:
* معنى الاستقامة:
معنى الاستقامة لغة : مصدر استقام مأخوذة من مادة (ق و م) التي تدل على معنيين : أحدهما جماعة من الناس، والآخر اعتدال أو حزم، والمعنى الثاني هو المراد.
[انظر لسان العرب مادة (قوم)].
و أما في الشرع : فمن أفضل التعريفات ما ذكره ابن رجب – رحمه الله - بقوله : " الاستقامة : هي سلوك الطريق المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة و لا يسرة، و يشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة و الباطنة و ترك المنهيات كلها كذلك "
[ انظر جامع العلوم و الحكم لابن رجب ص (193) ] .
و تنوعت أقوال السلف و تعددت في مفهوم الاستقامة و بالجملة ترجع إلى ما ذكره ابن رجب رحمه الله و أنها تعني التمسك بالدين كله و الثبات عليه، و لذا يقول ابن القيم – رحمه الله - : " فالاستقامة كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدين، و هي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق و الوفاء ".
[انظر تهذيب مدارج السالكين ص (529)].
* جماع الخير في الاستقامة وهي طريق النجاة
دل على ذلك حديث الباب حديث سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً، لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحدا بَعْدَكَ قال: «قُلْ آمَنْتُ بِالله ثم اسْتَقِمْ» "
فلما كان شأن الاستقامة عظيماً وهي أيضا عزيزة أرشد إليها النبي صلى الله عليه و سلم بعد الإيمان، فمن الناس من يأتي بالإيمان اعتقاداً و قولاً و عملاً لكنه يعوجُّ في طريقه ويقصِّر في عمله، و الاستقامة هي الثبات على طريق الحق و الاستمساك به، فهي طريق النجاة، و لذا أمر الله عز وجل بها و رتب عليها فضائل عدة كما سيأتي.
* الاستقامة تكون في النيات و الأقوال و الأعمال
فمن زعم أنه استقام على شرع الله تعالى و ظاهره يخالف ذلك و تراه ربما يشير إلى صدره و يقول : ( التقوى هاهنا ) فزعمه باطل و دعواه كاذبة، فاستقامة القلب تنقاد إليها الجوارح , فهي امتحانه ودليله وكما قال الشاعر :
إن ما تدعيه حقاً كذَّبته شواهد الامتحان
و كذا من استقام ظاهره ولم يستقم قلبه فاستقامته مخرومة , فليست هي الاستقامة التي يريدها الله تعالى، فمن عمر قلبه بفتن الشهوات و ساء عمله حمل قلبا مسودَّاً أو قلبا قليل التعلق بربه و مهابته و خشيته و إجلاله و تعظيمه و التقرب إليه بالعبادات القلبية فأنى لقلبه استقامة؟
و غالبا ما يُظهر ما في القلب اللسان فتجده معبِّرا عما فيه , فمن ساء قوله فكان كذابا أو مغتابا أو نماما أو فاحشا بذيئا و نحو ذلك من آفات اللسان فأي لسان استقام معه؟
و لذا فإن الاستقامة تكون بالقلب و اللسان و الجوارح.
يقول ابن القيم رحمه الله : " و الاستقامة تتعلق بالأقوال و الأفعال والأحوال والنِّيَّات، فالاستقامة فيها وقوعها لله و بالله و على أمر الله. قال بعضهم:كن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، و ربك يطالبك بالاستقامة، فالاستقامة للحال بمنزلة الروح من البدن، فكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميت فكذلك إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد...و سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة"
[انظر مدارج السالكين (2/103) و انظر تهذيبة ص (529)].
و يقول ابن رجب – رحمه الله - : " أصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد... فمتى استقام القلب على معرفة الله و على خشيته و إجلاله و مهابته و محبته و إرادته ورجائه و دعائه و التوكل عليه و الإعراض عما سواه، استقامت الجوارح كلها على طاعته، فإن القلب هو ملك الأعضاء، و هي جنوده فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه، و أعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان فإنه ترجمان القلب والمعبِّر عنه".
[ انظر جامع العلوم و الحكم (193) بتصرف يسير ].
فيا الله كم تحتاج قلوبنا و ألسنتنا و جوارحنا من مراجعة في استقامتها؟
* ليس مفهوم الاستقامة عدم الوقوع في الذنب
بل لابد من الذنب ففي حديث أنس - رضي الله عنه - مرفوعا (( كل ابن آدم خطاء و خير الخطائين التوابون )) رواه أحمد و الترمذي .
و الله عز و جل أمر مع الاستقامة الاستغفار من الذنب مما يدل على أن الاستقامة قد يقع فيها خلل و هذا أمر وارد و يجبر بالاستغفار فقال تعالى:{ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } (فصلت : 6 )
قال ابن رجب-رحمه الله - : "و في قوله عز وجل : { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } إشارة إلى أنه لابد من تقصير في الاستقامة المأمور بها، فيُجبَر ذلك بالاستغفار المقتضي للتوبة و الرجوع إلى الاستقامة، فهو كقول النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ رضي الله عنه : (( اتق الله حيثما كنت، و أتبع السيئة الحسنة تمحها )) و قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لن يطيقوا الاستقامة حق الاستقامة فقال عليه الصلاة و السلام : ((استقيموا و لن تحصوا، و اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، و لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن )) و في رواية للإمام أحمد – رحمه الله - (( سددوا و قاربوا، و لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن )) و في الصحيحين: (( سددوا و قاربوا )) فالسداد : هو حقيقة الاستقامة، و هو الإصابة في جميع الأقوال و الأعمال و المقاصد... والمقاربة: أن يصيب ما قرب من الغرض إذا لم يصب الغرض نفسه، و لكن بشرط أن يكون مصمماً على قصد السداد و إصابة الغرض".[ انظر جامع العلوم و الحكم (1/510) بتحقيق الأرناؤوط].
* أمر الله عز و جل بالاستقامة و حث عليها في عدة آيات منها:
- قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }( فصلت 30 )
- و قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ( الأحقاف :14)
- و قوله تعالى : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ( الفاتحة : 5،6 )
- و قوله تعالى :{ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ }(فصلت : 6 )
- و قوله تعالى :{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}( هود :112 )
- و قوله تعالى :{قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} ( يونس : 89 )
- و قوله تعالى :{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } ( الشورى : 15 )
و غيرها من الآيات التي فيها الحث على سلوك الصراط المستقيم وهي كثيرة.
* من ثمرات الاستقامة
من تأمل الآيات السابقة عرف أن للاستقامة ثمرات عديدة منها:
1- تتنزل على أهل الاستقامة السكينة
قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} فالملائكة تتنزل عليهم بالسرور و الحبور و البشرى في مواطن عصيبة، قال وكيع :" البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، و في القبر، و عند البعث "
[انظر تفسير القرطبي عند هذه الآية و كذا فتح القدير للشوكاني].
2- الطمأنينة و السكينة
حيث قال تعالى:{ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا } أي لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمور الآخرة، و لا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا، و قال عطاء – رحمه الله - : " لا تخافوا ردَّ ثوابكم فإنه مقبول و لا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم "
[انظر المرجعين السابقين].
3- البشرى بالجنة
فقال تعالى: { وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } وهذا هو الهدف الذي ينشده كل مسلم نسأل الله من واسع فضله.
4- سعة الرزق في الدنيا
قال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً} ( الجن : 16 ) أي كثيراً و المراد بذلك سعة الرزق و كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:" أينما كان الماء كان المال " [انظر تفسير القرطبي على هذه الآية].
5- الانشراح في الصدر و الحياة الطيبة
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ( النحل : 97 ) و من جاء بالاستقامة فقد عمل أحسن العمل فاستحق الحياة الطيبة الهنية.
* سبل تحقيق الاستقامة و المحافظة عليها
للاستقامة و الثبات عليها عدة مقويات و مغذيات منها:
1- فعل الطاعات والاجتهاد فيها ومجاهدة النفس عليها
و من الأصول العقدية في مذهب أهل السنة و الجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية، و الأدلة على هذا الأصل كثيرة مستفيضة، و أهم ما يحافظ عليه العبد الصلوات الخمس و كذلك بقية الفرائض و يستزيد من النوافل و يكثر منها، و في الحديث القدسي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - مرفوعا : قال الله عز وجل: (( و ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضه عليه و مازال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، و بصره الذي يبصر به، و يده التي يبطش بها، و رجله التي يمشي بها )) رواه البخاري .
فيحفظ الله عز وجل جوارحه فلا يصدر منها إلا ما يرضيه سبحانه و بهذا يكون حقق الاستقامة.
2- الاشتغال بالعلم الشرعي وطلبه
قال ابن القيم – رحمه الله - : "به يُعرَف اللهَ و يُعبد، و يُذكر و يُوحَّد، و يُحمد ويُمجَّد، وبه اهتدى إليه السالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومن بابه دخل القاصرون..." [انظر تهذيب مدارج السالكين (484)].
3- الإخلاص في العلم و العمل
فلابد من مجاهدة النفس على الإخلاص فهو روح كل عبادة و به تستقيم النفس و تصدق مع الله في الأقوال و الأعمال قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا } ( الروم : 30 ).
4- الدعاء
من مقويات الإيمان دعاء الله تعالى تحقيق الاستقامة و الثبات عليها كما كان النبي صلى الله عليه و سلم يسأل ربه الثبات على الدين، و قد أمرنا بقراءة الفاتحة في كل ركعة وفيها نسأل الله تعالى فنقول {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فندعو الله تعالى لأن الاستقامة و الثبات عليها بيد الله تعالى حيث قال: {مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ( الأنعام : 39 ).
5- الإكثار من قراءة القرآن
و محاولة حفظه أو ما تيسر منه و كذلك تدبره و العمل من أهم الأمور في تحقيق الاستقامة، فقد جعله الله تعالى سبيلا لمن أراد الاستقامة فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } ( التكوير : 28)، و قال: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }( الإسراء : 9) , وعلى العبد ألا يترك ملازمة القرآن سواء من حفظه أو من تلاوته تلاوة نظر فمع تدبره ينال العبد نصيباً من زيادة الإيمان الذي هو سبب كل استقامة .
6- الصحبة الصالحة
لأن صحبة البطالين و أهل المعاصي تضعف الاستقامة، تأمل كيف أن الله تعالى بعد أن أمر بالاستقامة حذر من الركون إلى أهل المعاصي لأن هذا يؤثر على الاستقامة فقال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} ( هود 112 ، 113 )
قال أهل العلم : أي لا تميلوا إلى العصاة.
7- التوسط و الاعتدال
لا إفراط وغلو وتشديد فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (( لن يشادّ الدين أحد إلا غلبه)) متفق عليه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( هلك المتنطعون )) أي المتشددون قالها ثلاثاً والحديث رواه مسلم من حديث ابن مسعود،-رضي الله عنه – وقال صلى الله عليه وسلم : ((اكلفوا من الأعمال ما تطيقون )) رواه البخاري، وأيضا لا تفريط باتباع الرخص و الهوى في الفتاوى و نحوها و لكن الوسط في ذلك وهو اتباع سنة النبي عليه الصلاة و السلام.
و هناك مقويات أخرى للإيمان كالإكثار من ذكر الله تعالى، و ذكر الموت، و الحرص على سلامة القلب، و مجاهدة النفس و الهوى والشيطان بالابتعاد عن الفتن ومواطن الغفلة، و الخوف و الحذر من سوء الخاتمة، و تجديد التوبة و الإنابة لله تعالى.
* من معوقات الاستقامة
فكما أن للاستقامة مغذيات و مقويات فإن لها معوقات فإن عكس ما تقدم من المغذيات تكون معوقات للاستقامة، فإهمال الطاعات والتقلل منها، و ترك مجالس العلم و الذكر، وعدم مجاهدة النفس على الإخلاص وترك الدعاء و قراءة القرآن و مصاحبة أهل المعاصي وتتبع الرخص أو الغلو في الدين وكذلك التعرض للفتن و الشهوات و أماكن الغفلات كل هذه و غيرها مما تضعف الاستقامة، و يضاف إليها أيضا:
1- الاستهانة بالمعصية
فإذا كان العبد ممن يستهين بالمعاصي وفي الخلوات مع الشهوات كان ذلك سبباً في مرض قلبه و بعده عن ربه، و في مسند الإمام أحمد قال النبي صلى الله عليه و سلم:" إياكم و محقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه"
[انظر صحيح الجامع (2687)]
و قد تكلم عن ذلك و أجاد طبيب القلوب ابن القيم في ذكر آثار المعاصي فيحسن الرجوع إلى كلامه الشافي في كتابه الجواب الكافي.
[انظر الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص (106)].
2- الانشغال بالدنيا عن الآخرة
قال النبي صلى الله عليه و سلم :(( ما الفقر أخشى عليكم و لكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، و تهلككم كما أهلكتهم )) متفق عليه،
و كذلك التوسع في المباحات يضعف القلب و يجر إلى التقصير في الواجبات.
3- الوسط السيء
فالوسط السيء سواء كان في الصحبة أو الوظيفة او الأسرة أو المجتمع بشكل عام مما يضعف الاستقامة، و تقدم قول الله تعالى: { وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} ( هود 13 )
أسأل الله أن يرزقنا إيمانا صادقا و استقامة ثابتة على طاعته إنه ولي ذلك و القادر عليه.