قال شيخ الاسلام احمد بن تيمية قدس الله روحه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبى بعده الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ونشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم
اما بعد فهذه كلمات مختصرات فى اعمال القلوب التى قد تسمى المقامات والاحوال وهي من اصول الايمان وقواعد الدين مثل محبة الله ورسوله والتوكل على الله واخلاص الدين له والشكر له والصبر على حكمه والخوف منه والرجاء له وما يتبع ذلك اقتضى ذلك بعض من اوجب الله حقه من اهل الايمان واستكتبها
وكل منا عجلان فأقول هذه الاعمال جميعها واجبة على جميع الخلق المأمورين فى الاصل باتفاق أئمة الدين والناس فيها على ثلاث درجات كما هم فى اعمال الابدان على ثلاث درجات ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات
فالظالم لنفسه العاصي بترك مأمور او فعل محظور
والمقتصد المؤدي الواجبات والتارك المحرمات
والسابق بالخيرات المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب والتارك للمحرم والمكروه وان كان كل من المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه إما بتوبة والله يحب التوابين ويحب المتطهرين واما بحسنات ماحية واما بمصائب مكفرة وإما بغير ذلك وكل من الصنفين المقتصدين والسابقين من اولياء الله الذين ذكرهم فى كتابه بقوله إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون فحد اولياء الله هم المؤمنون المتقون ولكن ذلك ينقسم الى عام وهم المقتصدون وخاص وهم السابقون وان كان السابقون هم اعلى درجات كالانبياء والصديقين
وقد ذكر النبى صلى الله عليه و آله وسلم القسمين فى الحديث الذي رواه البخاري فى حيحه عن ابي هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم انه قال يقول الله من عادى لى وليا فقد بارزنى بالمحاربة وما تقرب الي عبدي بمثل اداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى احبه فاذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها فبى يسمع وبي يبصر وبى يبطش وبى يمشى ولئن سألنى لأعطينه ولئن استعاذنى لاعيدنه وما ترددت عن شىء انا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت واكره مساءته ولابد له منه
واما الظالم لنفسه من أهل الايمان فمعه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب والسيئات المقتضية للعقاب حتى يمكن ان يثاب و يعاقب وهذا قول جميع اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الاسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون أنه لا يخلد فى النار من فى قلبه مثقال ذرة من ايمان وأما القائلون بالتخليد كالخوارج والمعتزلة القائلين أنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة وأنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره فى أهل الكبائر لا قبل دخول النار ولا بعده فعندهم لا يجتمع فى الشخص الواحد ثواب وعقاب وحسنات وسيئات بل من اثيب لا يعاقب ومن عوقب لم يثب ودلائل هذا الأصل من الكتاب و السنة و إجماع سلف الامة كثير ليس هذا موضعه وقد بسطناه فى مواضعه .
وينبنى على هذا أمور كثيرة ولهذا من كان معه إيمان حقيقى فلابد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمان هو إن كان له ذنوب كما روى البخارى فى صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً كان يسمى حماراً وكان يضحك النبى صلى الله عليه وسلم وكان يشرب الخمر ويجلده النبى صلى الله عليه وآله وسلم فأتى به مرة فقال رجل لعنة الله ما اكثر ما يؤتى به الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبى صلى الله عليه وسلم لا تلعنه فانه يحب الله ورسوله .
فهذا يبين ان المذنب بالشرب وغيره قد يكون محبا لله ورسوله وحب الله ورسوله اوثق عرى الايمان كما ان العابد الزاهد قد يكون لما فى قلبه من بدعة ونفاق مسخوطا عليه عند الله ورسوله من ذلك الوجه كما استفاض فى الصحاح وغيرها من حديث أمير المؤمنين على ابن ابى طالب وابي سعيد الخدري وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم انه ذكر الخوارج فقال يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية اينما لقيتموهم فاقتلوهم فان فى قتلهم أجراً عند اله لمن قتلهم يوم القيامة لئن ادركتهم لاقتلنهم قتل عاد .
وهؤلاء قاتلهم اصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم مع أمير المؤمنين على إبن أبى طالب بأمر النبى صلى الله عليه وسلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فى الحديث الصحيح فرقة من المسلمين يقتلهم ادنى الطائفتين الى الحق .
ولهذا قال أئمة الإسلام كسفيان الثوري وغيره إن البدعة أحب الى ابليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها ومعنى قولهم إن البدعة لا يتاب منها إن المبتدع الذي يتخذ دينا لم يشرعه الله ولا رسوله قد زين له سوء عمله فـرآه حسنـاً فهو لا يتوب ما دام يراه حسنا لان اول التوبة العلم بأن فعله سىء ليتوب منه او بأنه ترك حسنا مأمورا به أمر ايجاب أو استحباب ليتوب ويفعله فما دام يرى فعله حسناً وهو سيء فى نفس الأمر فانه لا يتوب .
ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى سبحانه تعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم كما قال تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم وقال تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتا واذا لآتيناهم من لدنا أجراً عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال تعالى : ()اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور) وقال تعالى : (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ) وشواهد هذا كثيرة فى الكتاب والسنة وكذلك من اعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعا لهواه فان ذلك يورثه الجهل والضلال حتى يعمى قلبه عن االحق الواضح كما قال تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) وقال تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ) وقال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وهذا استفهام نفى وانكار أي وما يدريكم انها اذا جاءت لا يؤمنون وانا نقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة على قراءة من قرأ انها بالكسر تكون جزما بأنها اذا جاءت لا يؤمنون ونقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة ولهذا قال من قال من السلف كسعيد بن جبير ان من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وان من عقوبة السيئة السيئة بعدها .
وقد ثبت فى الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال عليكم بالصدق فان الصدق يهدى الى البر وان البر يهدى الى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا واياكم والكذب فان الكذب يهدى الى الفجور وان الفجور يهدى الى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن الصدق أصل يستلزم البر وأن الكذب يستلزم الفجور .
وقد قال تعالى إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ولهذا كان بعض المشائخ إذا أمر بعض متبعيه بالتوبة وأحب أن لا ينفره ولا يشعب قلبه أمره بالصدق ولهذا كان يكثر فى كلام مشائخ الدين وائمته ذكر الصدق والإخلاص حتى يقولون قل لمن لا يصدق لا يتبعني ويقولون الصدق سيف الله فى الأرض وما وضع على شيء الا قطعه ويقول يوسف بن أسباط وغيره ما صدق الله عبد الا صنع له وأمثال هذا كثير .
والصدق والإخلاص هما فى الحقيقة تحقيق الإيمان والإسلام فان المظهرين الإسلام ينقسمون الى مؤمن ومنافق والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق فان أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب ولهذا إذا ذكر الله حقيقة الإيمان نعتة بالصدق كما فى قوله تعالى (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا الى قوله انما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وانفسهم فى سبيل الله اولئك هم الصادقون وقال تعالى للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله هم الصادقون) .
فأخبر أن الصادقين فى دعوى الإيمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبة وجاهدوا فى سبيـله بأموالهم وأنفسهم وذلك إن هذا هو العهد المأخوذ على الأولين والآخرين كما قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) قال ابن عباس ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وامره ان يأخذ الميثاق على امته لئن بعث محمد وهم احياء ليؤمنن به ولينصرنه .
وقال تعالى لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ان الله قوي عزيز فذكر تعالى انه انزل الكتاب والميزان وانه انزل الحديد لاجل القيام بالقسط وليعلم الله من ينصره ورسله ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدى وسيف ينصر وكفى بربك هاديا ونصيرا والكتاب والحديد وان اشتركا فى الانزال فلا يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث لم ينزل الآخر حيث نزل الكتاب من الله كما قال تعالى تنزيل الكتـاب مـن الله العزيز الحكيم وقال تعالى : (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) وقال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) والحديد أنزل من الجبال التي خلق فيها .
وكذلك وصف الصادقين في دعوى البر الذي هو جماع الدين في قوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم اللآخر والملائكة والكتاب والنبيين الي قوله اولئك الذين صدقوا وأؤلئك هم المتقون وأما المنافقون فوصفهم سبحانه بالكذب في آيات متعددة كقوله تعالى في قولبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وقوله تعالى اذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون وقوله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) ونحو ذلك في القرآن كثير ومما ينبغي ان يعرف ان الصدق والتصديق يكون في الاقوال وفى الاعمال كقول النبى صلى الله عليه وسلم وآله وسلم فى الحديث الصحيح كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر والاذنان تزنيان وزناهما السمع واليدان تزنيان وزناهما البطش والرجلان تزنيان وزناهما المشي والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك او يكذبه ويقال حملوا على العدو حملة صادقة اذا كانت ارادتهم للقتال ثابتة جازمة ويقال فلان صادق الحب والمودة ونحو ذلك ولهذا يريدون بالصادق الصادق فى ارادته وقصده وطلبه وهو الصادق فى عمله ويريدون الصادق في خبره وكلامه والمنافق ضد المؤمن الصادق وهو الذي يكون كاذبا فى خبره او كاذباً فى عمله كالمرائي فى عمله قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً) الآيتين .
واما الاخلاص فهو حقيقة الاسلام اذ الإسلام هو الإستسلام لله لا لغيره كما قال تعالى : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ .....الآية) فمن لم يستسلم لله فقد استكبر ومن استسلم لله ولغيره فقد اشرك وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام والإسلام ضد الشرك والكبر ويستعمل لازما ومتعديا كما قال تعالى اذ قال لـه ربه إسلم قال أسلمت لرب العالمين وقال تعالى : (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وامثال ذلك فى القرآن كثير .
ولهذا كان كان رأس الإسلام شهادة أن لا اله إلا الله وهى متضمنة عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا سواه كما قال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وقال تعالى : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إن الدين عند الله الإسلام وهذا الذي ذكرناه مما يبين ان اصل الدين فى الحقيقة هو الامور الباطنة من العلوم والاعمال وان الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الذي رواه احمد فى مسنده الاسلام علانية والايمان فى القلب ولهذا قال النبى صلىالله عليه وسلم فى الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبى صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثيرمن الناس فمن إتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع فى الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك ان يقع فيه ألا وان لكل ملك حمى ألا وان حمى الله محارمه ألا وان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد واذا فسدت فسد لها سائر الجسد الا وهي القلب وعن أبى هريرة قال القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده .
فصل وهذه الأعمال الباطنة كمحبة الله والإخلاص لـه والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك كلها مأمور بها فى حق الخاصة والعامة لا يمكن تركها محمودا فى حال أحد وان ارتقى مقامه
واما الحزن فلم يأمر الله به ولا رسوله بل قد نهى عنه في مواضع وان تعلق بأمر الدين كقوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وقوله تعالى : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) وقوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) وامثال ذلك كثير .
وذلك لأنه لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه ومالا فائدة فيه لا يأمر الله بــه نعم لا يأثم صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم كما يحزن على المصائب كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ان الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم واشار بيده الى لسانه وقال صلى الله عليه وسلم تدمع العين ويحزن القلب .
ولا نقول الا ما يرضي الرب ومنه قوله تعالى : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) وقد تبين بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه فيكون محموداً من تلك الجهة لا من جهة الحزن كالحزين على مصيبة فى دينه وعلى مصائب المسلمين عموما فهذا يثاب على ما فى قلبه من حب الخير وبغض الشر وتوابع ذلك ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى الى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهى عنه وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثم عنه من جهة الحزن .
وأما أن أفضى الى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر الله ورسوله به كان مذموماً عليه من تلك الجهة وان كان محمودا من جهة اخرى وأمـا المحبة لله والتوكل عليه والإخلاص له ونحو ذلك فهذه كلها خير محض وهى حسنة محبوبة فى حق كل أحد من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومن قال أن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط فى ذلك إن أراد خروج الخاصة عنها فان هذه لا يخرج عنها مؤمن قط وانما يخرج عنها كافر أو منافق وقد تكلم بعضهم فى ذلك بكلام بينا غلطه فيه وانه تقصير في تحقيق هذه المقامات بكلام مبسوط وليس هذا موضعه ، ولكن هذه المقامات ينقسم الناس فيها الى خصوص وعموم فللخاصة خاصها وللعامة عامها مثال ذلك أن هؤلاء قالوا أن التوكل مناضلة عن النفس فى طلب القوت والخاص لا يناضل عن نفسه وقالوا المتوكل يطلب بتوكله أمراً من الأمور والعارف يشهد الأمور بفروعها منها فلا يطلب شيئا فيقال أما الأول فان التوكل أعم من التوكل في مصالح الدنيا فإن المتوكل يتوكل على الله فى صلاح قلبه ودينه وحفظ لسانه وارادته وهذا اهم الأمور اليه ولهذا يناجي ربه فى كل صلاة بقوله إياك نعبد وإياك نستعين كما فى قوله تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) وقوله تعالى : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) وقوله تعالى : (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) فهو قد جمع بين العبادة والتوكل فى عدة مواضع لان هذين يجمعان الدين كله ولهذا قال من قال من السلف ان الله جمع الكتب المنزلة فى القرآن وجمع علم القرآن فى المفصل وجمع علم المفصل فى فاتحة الكتاب وجمع علم فاتحة الكتاب فى قوله إياك نعبد وإياك نستعين ، وهاتان الكلمتان هما الجامعتان اللتان للرب والعبد كما فى الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه : عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال يقول الله سبحانه قسمت الصلاة بيني وبين عبدى نصفين نصفها لي ونصفها لعبدى ولعبدى ما سأل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدنى عبدي يقول العبد الرحمن الرحيم يقول الله اثنى علي عبدي يقول العبد مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدى يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله فهذه الآية بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل يقول العبد إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين يقول الله فهؤلاء لعبدى ولعبدى ما سأل فالرب سبحانه له نصف الثناء والخير والعبد له نصف الدعاء والطلــب وهاتـان جامعتان ما للرب سبحانه وما للعبد فاياك نعبد واياك نستعين للعبد ، وفي الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه قال كنت رديفا للنبى صلى الله عليه وسلم على حمار فقال يا معاذ اتدري ما حق الله على العباد قلت الله ورسوله ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم عليه أن لا يعذبهم والعبادة هي الغاية التى خلق الله لها العباد من جهة أمر الله ومحبته ورضاه كما قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب وهي إسم يجمع كمال الحب لله ونهايته وكمال الذل لله ونهايته فالحب الخلي عن ذل والذل الخلي عن حب لا يكون عبادة وانما العبادة ما يجمع كمال إلا مرين ولهذا كانت العبادة لا تصلح إلا الله وهي وإن كانت منفعتها للعبد والله غني عن العالمين فهي له من جهة محبته لها ورضاه بها ولهذا كان الله اشد فرحا بتوبة العبد من الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه فى أرض دوية مهلكة إذا نام آيسا منها ثم استيقظ فوجدها فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته وهذا يتعلق به أمور جليلة قد بسطناها وشرحناها في غير هذا الموضع .
والتوكل والإستعانة للعبد لأنه هو الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة فالاستعانة كالدعاء والمسئلة وقد روى الطبراني فى كتاب الدعاء عن النبى صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل يا ابن آدم إنما هي أربع واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين خلقى فأما التى لي فتعبدنى لا تشرك بي شيئا وأما التى هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه وأما التى بينى وبينك فمنك الدعاء وعلى الإجابة وأما التى بينك وبين خلقى فأت للناس ما تحب ان يأتوا اليك .
وكون هذا لله وهذا للعبد هو باعتبار تعلق المحبة والرضا إبتداء فان العبد إبتداء يحب ويريد ما يراه ملائما له والله تعالى يحب ويرضى ما هو الغاية المقصودة فى رضاه ويحب الوسيلة تبعاً لذلك وإلا فكل مأمور به فمنفعته عائدة على العبد وكل ذلك يحبه الله ويرضاه وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا وهو غلط بل التوكل فى الامور الدينية اعظم .
وأيضاً التوكل من الأمور الدينية التى لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بها والزاهد فيها زاهد فيما يحبه الله ويأمر به ويرضاه ، والزهد المشروع هو ترك الرغبة فيما لا ينفع فى الدار الآخرة وهو فضول المباح التى لا يستعان بها على طاعة الله كما أن الورع المشروع هو ترك ما قد يضر فى الدار الآخرة وهو ترك المحرمات والشبهات التى لا تستلزم تركها ترك ما فعله أرجح منها كالواجبات فأما ما ينفع في الدار الآخرة بنفسه أو يعين على ما ينفع فى الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل فى قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) كما أن الإشتغال بفضول المباحات هو ضد الزهد المشروع فان اشتغل بها عن فعل واجب او فعل محرم كان عاصياً وإلا كان منقوصا عن درجة المقربين الى درجة المقتصدين ، وأيضا فان التوكل هو محبوب لله مرضي لـه مأمور به دائماً وما كان محبوبا لله مرضياً لـه مأموراً به دائما لا يكون من فعل المقتصدين دون المقربين فهذه ثلاثة أجوبة عن قولهم المتوكل يطلب حظوظه .
وأما قولهم أن الأمور قد فرغ منها فهذا نظير ما قاله بعضهم فى الدعاء أنه لا حاجة اليه لأن المطلوب أن كان مقدرا فلا حاجة إليه وإن لم يكن مقدراً لم ينفع الدعاء وهذا القول من أفسد الأقوال شرعاً وعقلاً .
وكذلك قول من قال التوكل والدعاء لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة وانما هوعبادة محضة وان حقيقة التوكل بمنزلة حقيقة التفويض المحض وهذا وان كان قاله طائفة من المشائخ فهو غلط أيضاً وكذلك قول من قال إن الدعاء انما هو عبادة محضة .
فهذه الأقوال وما أشبهها يجمعها أصل واحد وهو ان هؤلاء ظنوا ان كون الأمور مقدرة قضية يمنع ان تتوقف على اسباب مقدرة ايضا تكون من العبد ولم يعلموا ان الله سبحانه يقدر الأمور ويقضيها بالأسباب التى جعلها معلقة بها من أفعال العباد وغير أفعالهم ولهذا كان طرد قولهم يوجب تعطيل الاعمال بالكلية .
وقد سئل النبى صلى الله عليه وسلم وآله وسلم عن هذا الأصل مرات فأجاب عنه كما أخرجا فى الصحيحين عن عمـران بن حصين قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قالوا ففيم العمل قال كل ميسر لما خلق له وفى الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال كنا في جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة فى الأرض ثم رفع رأسه وقال ما من نفس منفوسة الا وقد كتب مكانها من النار أو الجنة إلا وقد كتبت شقية او سعيدة قال : فقال رجل من القوم يا نبى الله أفلا يمكث على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة ليكونن الى السعادة ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن الى الشقاوة قال أعملوا فكل ميسر لما خلق له اما أهل السعادة فييسرون للسعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة ثم قال نبى الله صلى الله عليه وسلم فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى واما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى أخرجه الجماعة في الصحاح والسنن والمسانيد .
وروى الترمذى ان النبى صلى الله عليه وآله وسلم سئل فقيل يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقة بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي من قدر الله وقد جاء هذا المعنى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى عدة احاديث .
فبين صلى الله عليه وسلم وآله وسلم أن تقدم العلم والكتاب بالسعيد والشقي لا ينافى أن تكون سعادة هذا بالأعمال الصالحة وشقاوة هذا بالأعمال السيئة فانه سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه وكذلك يكتبها فهو يعلم أن السعيد يسعد بالأعمال الصالحة والشقي يشقى بالأعمال السيئة فمن كان سعيدا ييسر للأعمال الصالحة التى تقتضي السعادة ومن كان شقياً ييسر للأعمال السيئة التى تقضي الشقاوة وكلاهما ميسر لما خلق له وهو ما يصير اليه من مشيئـة الله العامة الكونية التى ذكرها الله سبحانه فى كتابه فى قوله تعالـى : (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم) ، واما ما خلقوا له من محبة الله ورضاه وهو إرادته الدينية التى امروا بموجبها فذلك مذكور فى قوله وما خلقت الجن والأنس الا ليعبدون والله سبحانه قد بين في كتابه فى كل واحدة من الكلمات والأمر والإرادة و الأذن و الكتاب والحكم و القضاء والتحريم ونحو ذلك ما هو ديني موافق لمحبة الله ورضاه وامره الشرعى وما هو كوني موافق لمشيئته الكونية .
مثاـل ذلك انه قال فى الأمر الدينى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وقال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) ونحو ذلك وقال فى الكونى إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون وكذلك قوله تعالى : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) على احدى الاقوال فى هذه الاية
وقال فى الإرادة الدينية يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وقال فى الإرادة الكونية ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد وقال فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يردان يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد فى السماء وقال نوح عليه السلام ولا ينفعكم نصحي ان أردت ان انصح لكم ان كان الله يريد أن يغويكم وقال تعالى : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقال تعالى فى الاذن الديني : (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) وقال تعالى في الكونى : (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) وقال تعالى فى القضاء الدينى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) أي أمر وقال تعالى فى الكونى : (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) وقال تعالى فى الحكم الدينى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) وقال تعالى : (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وقال تعالى في الكونى عن ابن يعقوب : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) وقال تعالى : قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) .
وقال تعالى فى التحريم الدينى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ .....الآية) وقال تعالى فى التحريم الكونى : (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) وقال تعالى : ()وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) (المعارج:24)
)لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج:25)
وقال تعالى في الكلمات الدينية )وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ )(البقرة: من الآية124) وقال تعالى فى الكونية وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى اسرائيل بما صبروا ومنه قوله صلى الله عليه وسلم المستفيض عنه من وجوه فى الصحاح والسنن والمسانيد انه كان يقول فى استعاذته اعوذ بكلمات الله التامات التى لايجاوزهن برولا فاجر ومن المعلوم أن هذا هو الكونى الذي لا يخرج منه شيء عن مشيئته وتكوينه واما الكلمات الدينية فقد خالفها الفجار بمعصيته .
والمقصود هنا انه صلى الله عليه وسلم بين ان العواقب التى خلق لها الناس من سعادة وشقاوة ييسرون لها بالاعمال التى يصيرون بها الى ذلك كما ان سائر المخلوقات كذلك فهو سبحانه يخلق الولد وسائر الحيوان في الارحام بما يقدره من اجتماع الابوين على النكاح واجتماع المائين فى الرحم فلو قال الانسان انا اتوكل ولا أطأ زوجتى فان كان قد
قضي لى بولد وجد والا لم يوجد ولا حاجة الى وطء كان أحمق بخلاف ما إذا وطيء وعزل الماء فان عزل الماء لا يمنع انعقاد الولد إذا شاء الله إذ قد يسبق الماء بغير اختياره .
ومن هذا ما ثبت فى الصحيحين عن أبى سعيد الخدري قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة بنى المصطلق فاصبنا سبيا من العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة واحببنا العزل فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما عليكم ألا تفعلوا فان الله قد كتب ما هو خالق الى يوم القيامة وفى صحيح مسلم عن جابر أن رجلاً أتى النبى صلى الله عليه سلم فقال أن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل وانا أطوف عليها واكره أن تحمل فقال أعزل عنها إن شئت فانه سيأتيها ما قدر لها .
وهذا مع ان الله سبحانه قادر على ما قد فعله من خلق الإنسان من غير أبوين كما خلق آدم ومن خلقه من أب فقط كما خلق حواء من ضلع آدم القصير ومن خلقه من أم فقط كما خلق المسيح بن مريم عليه السلام لكن خلق ذلك بأسباب اخرى غير معتادة .
وهذا الموضع وان كان إنما يجحده الزنادقة المعطلون للشرائع فقد وقع فى كثير من دقه كثير من المشائخ المعظمين يسترسل احدهم مع القدر .
غير محقق لما أمر به ونهى عنه ويجعل ذلك من باب التفويض والتوكل والجري مع الحقيقة القدرية ويحسب أن قول القائل ينغي للعبد أن يكون مع الله كالميت بين يدي الغاسل يتضمن ترك العمل بالأمر والنهي حتى يترك ما أمر به ويفعل ما نهى عنه وحتى يضعف عنده النور والفرقان الذى يفرق به بين ما أمر الله به واحبه ورضيه وبين ما نهى عنه وأبغضه وسخطه فيسوى بين ما فرق الله بينه كما قال تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) وقال تعالى : ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) وقال تعالى : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) وقال تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون) وقال تعالى : ( وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ* وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) وأمثال ذلك .
حتى يفضي الأمر بغلاتهم الى عدم التمييز بين الأمر بالمأمور النبوى الإلهي الفرقاني الشرعى الذي دل عليه الكتاب والسنة وبين ما يكون فى الوجود من الاحوال التى تجري على أيدي الكفار والفجار فيشهدون وجه الجمع من جهة كون الجميع بقضاء الله وقدره وربوبيته وارادته العامة .
وأنه داخل فى ملكه ولا يشهدون وجه الفرق الذي فرق الله به بين أوليائه وأعدائه والأبرار والفجار والمؤمنين والكافرين وأهل الطاعة الذين أطاعوا أمره الدينى وأهل المعصية الذين عصوا هذا الأمر ويستشهدون في ذلك بكلمات نقلت عن بعض الأشياخ أو ببعض غلطات بعضهم .
وهذا أصل عظيم من أعظم ما يجب الإعتناء به على أهل طريق الله السالكين سبيل الإرادة إرادة الذين يريدون وجهه فانه قد دخل بسبب إهمال ذلك على طوائف منهم من الكفر والفسوق والعصيان مالا يعلمه الا الله حتى يصيروا معاونين على البغي والعدوان للمسلطين فى الأرض من أهل الظلم والعلو كالذين يتوجهون بقلوبهم في معاونة من يهوونه من أهل العلو فى الأرض والفساد ظانين أنهم إذا كانت لهم أحوال أثروا بها فى ذلك كانوا بذلك من أولياء الله فان القلوب لها من التأثير أعظم مما للأبدان لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحا وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسداً فالأحوال يكون تأثيرها محبوبا لله تارة ومكروها لله أخرى وقد تكلم الفقهاء على وجوب القود على من يقتل غيره فى الباطن حيث يجب القود فى ذلك ويستشهدون ببواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم بكشف يكشف له أو تأثير يوافق إرادته هو كرامة من الله له ولا يعلمون أنه فى الحقيقة إهانة وأن الكرامة لزوم الاستقامة وإن الله لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم الا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
فإن كانوا موافقين له فيما أوجبه عليهم فهم من المقتصدين وإن كانوا موافقين فيما أوجبه واحبه فهم من المقربين مع ان كل واجب محبوب وليس كل محبوب واجباً وأما ما يبتلي الله به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها أو بالضراء فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه بل قد يسعد بها قوم إذا أطاعوه فى ذلك وقد يشقى بها قوم إذا عصوه فى ذلك
قال الله تعالى : (فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) كلا ولهذا كان الناس فى هذه الامور على ثلاثة اقسام :
قسم ترتفع درجاتهم بخرق العادة اذا استعملوها فى طاعة الله .
وقوم يتعرضون بها لعذاب الله اذا استعملوها فى معصية الله كبلعام وغيره وقوم تكون في حقهم بمنزلة المباحات
والقسم الأول هم المؤمنون حقاً المتبعون لنبيهم سيد ولد آدم الذي انما كانت خوارقه لحجة يقيم بها دين الله أو لحاجة يستعين بها على طاعة الله ولكثرة الغلط فى هذا الأصل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسترسال مع القدر بدون الحرص على فعل المأمور الذي ينفع العبد فروى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير أحــرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن وان أصابك شيء فلا تقل لو أنى فعلت كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فان لو تفتح عمل الشيطان وفي سنن أبى داود أن رجلين اختصما الى النبى صلى الله عليه وسلم فقضي على أحدهما فقال المقضى عليه حسبى الله ونعم الوكيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فاذا غلبك أمر فقل حسبى الله ونعم الوكيل فأمر النبى صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى إياك نعبد واياك نستعين وقوله تعالى : ( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) فان الحرص على ما ينفع العبد هو طاعة الله وعبادته إذ النافع له هو طاعة الله ولا شيء أنفع له من ذلك وكل ما يستعان به على الطاعة فهو طاعة وان كان من جنس المباح .
قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح لسعد إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا إزددت بها درجة ورفعه حتى اللقمة تضعها فى في امرأتك فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن الله يلوم على العجز الذي هو ضد الكيس وهو التفريط فيما يؤمر بفعله فان ذلك ينافى القدرة المقارنة للفعل وان كان لا ينافى القدرة المتقدمة التى هى مناط الأمر والنهي .
فإن الإستطاعة التى توجب الفعل تكون مقارنة له ولا تصلح إلا لمقدورها كما ذكرها الله تعالى في قوله : (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْع) وفى قوله : (وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) وأما الإستطاعة التى يتعلق بها الأمر والنهي فتلك قد يقترن بها الفعل وقد لا يقترن كما فى قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وقول النبى صلى الله عليه وسلم لعمران ابن حصين صل قائما فان لم تستطع فقاعدا فان لم تستطيع فعلى جنب .
فهذا الموضع قد انقسم الناس فيه الى أربعة اقسام :
قوم ينظرون الى جانب الأمر والنهي والعبادة والطاعة شاهدين لآلهية الرب سبحانه الذي أمروا أن يعبدوه ولا ينظرون إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والاستعانة وهو حال كثير من المتفقهة والمتعبدة فهم مع حسن قصدهم وتعظيمهم لحرمات الله ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلان لأن الإستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إليه والدعاء له هي التى تقوى العبد وتيسر عليه الأمور .
ولهذا قال بعض السلف من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله وفى الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صفته في التوراة انا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدى ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يجزى بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء فأفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفا بأن يقولـوا لا اله الا الله .
ولهذا روى أن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش بقولهم لا حول ولا قوة الا بالله وقد ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنها كنز من كنوز الجنة قال تعالى : ( يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) وقال تعالى : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) وفى صحيح البخارى عن إبن عباس رضي الله عنه في قوله وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم الخليل حين ألقى فى النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم .
و قسم ثان يشهدون ربوبية الحق وإفتقارهم اليه ويستعينون به لكن على أهوائهم واذواقهم غير ناظرين الى حقيقة امره ونهيه ورضاه وغضبه ومحبته وهذا حال كثير من المتفقرة والمتصوفة ولهذا كثيرا .
ما يعملون على الأحوال التى يتصرفون بها فى الوجود ولا يقصدون ما يرضى الرب ويحبه وكثيراً ما يغلطون فيظنون أن معصيته هي مرضاته فيعودون الى تعطيل الامر والنهي يسمون هذا حقيقة ويظنون ان هذه الحقيقة القدرية يجب الإسترسال معها دون مراعاة الحقيقة الأمرية الدينية التى هي تحوى مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهرا وباطنا .
وهؤلاء كثيراً ما يسلبون أحوالهم وقد يعودون الى نوع من المعاصي والفسوق بل كثير منهم يرتد عن الإسلام لأن العاقبة للتقوى ومن لم يقف عند أمر الله ونهيه فليس من المتقين فهم يقعون فى بعض ما وقع المشركون فيه تارة بدعة يظنونها شرعة وتارة فى الإحتجاج بالقدر على الأمر والله تعالى لما ذكر ما ذم به المشركين فى سورة الأنعام والأعراف ذكر ما إبتدعوه من الدين وجعلوه شرعه كما قال تعالى : (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) وقد ذمهم على أن حرموا مالم يحرمه الله وأن شرعوا مالم يشرعه الله وذكر احتجاجهم بالقدر فى قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) ونظيرها فى النحل ويس والزخرف وهؤلاء يكون فيهم شبه من هذا وهذا .
واما القسم الثالث وهو من أعرض عن عبادة الله واستعانته به فهؤلاء شر الأقسام .
و القسم الرابع هو القسم المحمود وهو حال الذين حققوا إياك نعبد واياك نستعين وقوله فاعبده وتوكل عليه فاستعانوا به على طاعته وشهدوا انه الههم الذي لا يجوز ان يعبد الا اياه بطاعته وطاعة رسوله وانه ربهم الذي ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع وانه ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو وان يردك بخير فلا راد لفضله قل افرأيتم ما تدعون من دون الله أن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته .
ولهذا قال طائفة من العلماء الإلتفات الى الأسباب شرك فى التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص فى العقل والأعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع .
فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق فقد غلط غلطاً شديداً وأن كان من أعيان المشائخ كصاحب علل المقامات وهو من أجل المشائخ وأخذ ذلك عنه صاحب محاسن المجالس وظهر ضعف حجة من قال ذلك لظنه ان المطلوب به حظ العامة فقط وظنه أنه لا فائدة له فى تحصيل المقصود وهذه حال من جعل الدعاء كذلك وذلك بمنزلة من جعل الاعمال المأمور بها كذلك كمن اشتغل بالتوكل عن ما يجب عليه من الاسباب التى هى عبادة وطاعـة مأمـور بها فان غلط هذا في ترك الأسباب المأمور بها التى هي داخلة فى قوله تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) كغلط الاول في ترك التوكل المأمور به الذي هو داخل فى قوله تعالى فاعبده وتوكل عليه .
لكن يقال من كان توكله على الله ودعاؤه له هو فى حصول مباحات فهو من العامة وان كان فى حصول مستحبات وواجبات فهو من الخاصة كما أن من دعاه وتوكل عليه فى حصول محرمات فهو ظالم لنفسه ومن أعرض عن التوكل فهو عاص لله ورسوله بل خارج عن حقيقة الإيمان فكيف يكون هذا المقام للخاصة قال الله تعالى : (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) وقال تعالى : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وقال تعالى : ( وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وقال تعالى : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) وقد ذكر الله هذه الكلمة حسبى الله فى جلب المنفعة تارة وفى دفع المضرة اخرى فالأولى فى قوله تعالى ولو انهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله الآية .
و الثانية فى قوله الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل وفى قوله تعالى وإن يريدوا أن يخدعوك فان حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وقوله ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله يتضمن الأمر بالرضا والتوكل والرضا والتوكل يكتنفان المقدور فالتوكل قبل وقوعه والرضا بعد وقوعه ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى الصلاة اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لي اللهم أنى أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا واسألك القصد فى الفقـر والغنى واسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع اللهم أنى أسألك قرة عيــن لا تنقطع الللهم أني أسالك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر الى وجهك وأسألك الشوق الى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان وأجعلنا هداة مهتدين رواه احمد والنسائى من حيث عمار بن ياسر .
وأما ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضا لا حقيقة الرضا ولهذا كان طائفة من المشائخ يعزمون على الرضا قبل وقوع البلاء فاذا وقع انفسخت عزائمهم كما يقع نحو ذلك فى الصبر وغيره كما قال تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ *إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) نزلت هذه الآية لما قالوا لو علمنا أى الأعمال أحب الى الله لعملناه فانزل الله سبحانه وتعالى آية الجهاد فكرهه من كرهه .
ولهذا كره للمرء أن يتعرض للبلاء بأن يوجب على نفسه مالا يوجبه الشارع عليه بالعهد والنذر ونحو ذلك أو يطلب ولاية او يقدم على بلد فيه طاعون كما ثبت فى الصحيحين من غير وجه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال أنه لا ياتى بخير وانما يستخرج به من البخيل وثبت عن في الصحيحين انة قال لعبد الرحمن بن سمرة لاتسأل الإمارة فانك أن أعطيتها عن مسألة وكلت اليها وان أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذى هو خير وكفر عن يمينك وثبت عنة فى الصحيحين أنة قال فى الطاعون اذا سمعتم بة بأرض فلا تقدموا علية وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منة وثبت عنة فى الصحيحين انة قال لاتتمنوا لقاء العدو وأسألوا اللة العافية ولكن إذا لقيتموهم فأصبروا وأعلموا أن الجنة تحت ظلآل السيوف وأمثال ذلك مما يقتضى أن الإنسان لاينبغى أن يسعى فيما يوجب علية أشياء ويحرم علية أشياء فيبخل بالوفاء كما يفعل كثير ممن يعاهد اللة عهودا على أمور وغالب هؤلاء يبتلون بنقض العهود .
ويقتضى أن الإنسان إذا أبتلى فعلية أن يصبر ويثبت ولا ينكل حتى يكون من الرجال الموقنين القائمين بالواجبات ولا بد فى جميع ذلك من الصبر ولهذا كان الصبر واجباً باتفاق المسلمين على أداء الواجبات وترك المحظورات ويدخل فى ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها والصبر عن أتباع أهواء النفوس فيما نهى اللة عنة .
وقد ذكر الله الصبر فى كتابه فى أكثر من تسعين موضعا وقرنه بالصلاة فى قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وقوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) إلى قوله تعالى : (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فاصبر ان وعد الله حق واستفغر لذنبك الآية .
وجعل الإمامة فى الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله وجعلنا هم أئمة يهدون بأمر لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فإن الدين كله علم بالحق وعمل به والعمل به لا بد فيه من الصبر بل وطلب علمه يحتاج الى الصبر كما قال معاذ بن جبل رضى الله عنه عليكم بالعلم فان طلبه لله عبادة ومعرفته خشية والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ومذاكرته تسبيح به يعرف الله ويعبد وبه يمجد الله ويوحد يرفع الله بالعلم أقواما يجعلهم للناس قادة وائمة يهتدون بهم وينتهون الى رأيهم .
فجعل البحث عن العلم من الجهاد ولا بد فى الجهاد من الصبر ولهذا قال تعالى : (والعصر إن الإنسان لفى خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) وقال تعالى : (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) فالعلم النافع هو أصل الهدى والعمل بالحق هوالرشاد وضد الأول الضلال وضد الثانى ألغى فالضلال العمل بغير علم والغى إتباع الهوى وما غوى فلا ينال الهدى إلا بالعلم ولا ينال الرشاد الا بالصبر ولهذا قال على ألا ان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فاذا انقطع الرأس بان الجسد ثم رفع صوته فقال ألا لا إيمان لمـن لا صبر له .
وأما الرضا فقد تنازع العلماء والمشائخ من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم فى الرضا بالقضاء هل هو واجب أو مستحب على قولين فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين وعلى الثانى يكون من أعمال المقربين قال عمر بن عبد العزيز الرضا عزبز ولكن الصبر معول المؤمن وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس إن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فأفعل فان لم تستطع فان فىالصبر على ما تكره خيرا كثيرا ولهذا لم يجئ فى القرآن الا مدح الراضين لا إيجاب ذلك وهذا فى الرضا بما يفعله الرب بعبده من المصائب كالمرض والفقر والزلزال كما قال تعالى والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) فالبأساء فى الأموال والضراء فى الأبدان والزلزال فى القلوب .
وأما الرضا بما أمر الله به فأصله واجب وهو من الإيمان كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فىالحديث الصحيح ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وهو من توابع المحبة كما سنذكره إن شاء الله تعالى قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ...... الآية) وقال تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) وقال تعالى : (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) .
ومن النوع الأول ما رواه أحمد والترمذى وغيرهما عن سعد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال من سعادة ابن آدم استخارته لله ورضاه بما قسم الله لـه ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارته لله وسخطه بما يقسم الله له .
وأما الرضا بالمنهيات من الكفر والفسوق والعصيان فأكثر العلماء يقولون لا يشرع الرضا بها كما لا تشرع محبتها فان الله سبحانه لايرضاها ولا يحبها وان كان قدرها وقضاها كما قال سبحانه والله لا يجب الفساد وقال تعالى ولا يرضى لعباده الكفر وقال تعالى وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول بل يسخطها كما قال الله تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) .
وقالت طائفة ترضى من جهة كونها مضافة الى الله خلقا وتسخط من جهة كونها إلى العبد فعلا وكسبا وهذا القول لا ينافىالذى قبله بل هما يعودان الى أصل واحد وهو سبحانه إنما قدر الأشياء لحكمة فهى باعتبار تلك الحكمة محبوبة مرضية وقد تكون فى نفسها مكروهة ومسخوطة إذ الشئ الواحد يجتمع فيه وصفان يجب من أحدهما ويكره من الآخر كما فى الحديث الصحيح ما ترددت عن شئ انا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه .
وأما من قال بالرضا بالقضاء الذى هو وصف الله وفعله لا بالمقتضى الذى هو مفعوله فهو خروج منه عن مقصود الكلام فان الكلام ليس فى الرضا فيما يقوم بذات الرب تعالى من صفاته وافعاله وانما الكلام فىالرضا بمفعولاته والكلام فيما يتعلق بهذا قد بيناه فى غير هذا الموضع .
والرضا وان كان من أعمال القلوب فكماله هو الحمد حتى أن بعضهم فسرالحمد بالرضا ولهذا جاء فى الكتاب والسنة حمد الله على كل حال وذلك يتضمن الرضا بقضائه وفى الحديث أول من يدعى الى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله فى السراء والضراء وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أتاه الأمر يسره قال الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات واذا أتاه الأمر الذى يسوءه قال الحمد لله على كل حال وفى مسند الإمام أحمد عن أبى موسى الأشعرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال إذا قبض ولد العبد يقول الله لملائكته أقبضتم ولد عبدى فيقولون نعم فيقول اقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول ماذا قال عبدى فيقولون حمدك واسترجع فيقول أبنوا لعبدى بيتا فى الجنة وسموه بيت الحمد ونبينا محمد صلىالله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد وامته هم الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء والحمد على الضراء يوجبه مشهدان .
أحدهما علم العبد بأن الله سبحانه مستوجب لذلك مستحق له لنفسه فانه أحسن كل شئ خلقه واتقن كل شئ وهو العليم الحكيم الخبير الرحيم .
والثانى علمه بأن اختيار الله لعبده المؤمن خير من اختياره لنفسه كما روى مسلم فى صحيحه وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم قال والذى نفسى بيده لا يقتضى الله للمؤمن قضاء الأ كان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وان أصابته ضراء صبر فكان خيراً له .
فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن كل قضاء يقضيه الله للمؤمن الذى يصبر على البلاء ويشكر على السراء فهو خير له قال تعالى : (ِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) وذكرهما فى أربعة مواضع من كتابه .
فأما من لايصبر على البلاء ولا يشكر على الرخاء فلا يلزم أن يكون القضاء خيراً له ولهذا أجيب من أورد هذا على ما يقضى على المؤمن من المعاصى بجوابين .
أحدهما أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد لا ما فعله العبد كما فى قوله تعالى : (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) اى من ضراء وكقوله تعالى : (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أى بالسراء والضراء كما قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) وقال تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) فالحسنات والسيئات يراد بها المسار والمضار ويراد بها الطاعات والمعاصى .
والجزاب الثانى أن هذا فى حق المؤمن الصبار الشكور والذنوب تنقض الإيمان فاذا تاب العبد أحبه الله وقد ترتفع درجته بالتوبة قال بعض السلف كان داوود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد بن جبير أن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار وأن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينه ويعجب بها ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستفغر الله ويتوب اليه منها وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال الأعمال بالخواتيم والمؤمن اذا فعل سيئة فان عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب .
أن يتوب فيتوب الله عليه فان التائب من الذنب كمن لاذنب له أو يستغفر فيغفراً له أو يعمل حسنات تمحوها فان الحسنات يذهبن السيئات أو يدعو له أخوانه المؤمنون ويستغفرون له حياً وميتاً أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به أو يشفع فيه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أو يبتليه الله تعالى فى الدينا بمصائب تكفر عنه أو يبتليه فى البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه أو يبتليه فى عرصات القيامة من أهوالها بما يكفرعنه أو يرحمه أرحم الراحمين فمن أخطأته هذه العشرة فلا يلومن الا نفسه كما قال تعالى فيما يروى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عبادى انما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم أياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه .
فإذا كان المؤمن يعلم أن القضاء خير له اذا كان صباراً شكوراً أو كان قد إستخار الله وعلم إن من سعادة ابن آدم استخارته لله ورضاه بما قسم الله له كان قد رضى بما هو خير له وفى الحديث الصحيح عن على رضى الله عنه قال إن الله يقضى بالقضاء فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط ففى هذا الحديث الرضا والإستخارة فالرضا بعد القضاء والإستخارة قبل القضاء وهذا أكمل من الضراء والصبر فلهذا فى ذكر الرضا وفى هذا الصبر .
ثم إذا كان القضاء مع الصبر خيراً له فكيف مع الرضا ولهذا فى الحديث المصاب من حرم الثواب فى الأثر الذى رواه الشافعي فى مسنده أن النبى صلى الله عليه وسلم لما مات سمعوا قائلاً يقول يا آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فى الله عزاء من كل مصيبة وخلفاً من كل هالك ودركاً من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فأرجوا فان المصاب من حرم الثواب ولهذا لم يؤمر بالحزن المنافى للرضا قط مع أنه لا فائدة فيه فقد يكون فيه مضرة لكنه عفى عنه اذا لم يقترن به ما يكرهه الله لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب وذلك لاينافى الرضا بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه وبهذا يعرف معنى قول النبى صلى الله عليه وسلم لما بكى على الميت وقال إن هذه رحمة جعلها الله فى قلوب عبادة وانما يرحم الله من عباده الرحماء فان هذا ليس كبكاء من يبكى لحظه لا لرحمة الميت فان الفضيل بن عياض لما مات إبنه على فضحك وقال رأيت ان الله قد قضى فأحببت أن أرضى بما قضى الله به حاله حال حسن بالنسبة الى أهل الجزع وأما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء وحمد الله تعالى كحال النبى صلى الله عليه وسلم فهذا أكمل كما قال تعالى : (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) فذكر سبحانه التواصى بالصبر والمرحمة .
والناس أربعةاقسام منهم من يكون فيه صبر بقسوة ومنهم من يكون فيه رحمة بجزع ومنهم من يكون فيه القسوة والجزع والمؤمن المحمود الذى يصبر على ما يصيبه ويرحم الناس وقد ظن طائفة من المصنفين فى هذا الباب أن الرضا عن الله من توابع المحبة له وهذا انما يتوجه على المأخذ الأول وهو الرضا عنه لإستحقاقه ذلك بنفسه مع قطع العبد النظر عن حظه بخلاف المأخذ الثانى وهو الرضا لعلمه بأن المقضى خير له ثم ان المحبة متعلقة به والرضا متعلق بقضائه لكن قد يقال فى تقرير ما قال هذا المصنف ونحوه إن المحبة لله نوعان محبة به نفسه ومحبة له لما فيه من الإحسان وكذلك الحمد له نوعان حمد له على ما يستحقه نفسه وحمد على إحسانه الى عبده فالنوعان للرضا كالنوعين للمحبة .
وأما الرضا به وبدينه وبرسوله فذلك من حظ المحبة ولهذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم ذوق طعم الإيمان كما ذكر فى المحبة وجود حلاوة الإيمان وهذان الحدثيان الصحيحان هما أصل فيما يذكر من الوجد والذوق الإيمانى الشرعى دون الضلالى البدعى ففى صحيح مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ذاق طعم الإيمان من رضى بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما ومن كان يجب المرء لا يحبه إلا الله ومن كان يكره أن يرجع فى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى فى النار وهذا مما يبين من الكلام على المحبة فنقول .
فصل محبة الله بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده بل هى أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين وكما أن التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين فان كل حركة فى الوجود انما تصدر عن محبة إما عن محبة محمودة أو عن محبة مذمومة كما قد بسطنا ذلك فى قاعدة المحبة من القواعد الكبار .
فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لاتصدر الا عن المحبة المحمودة وأصل المحبة المحمودة هى محبة الله سبحانه وتعالى إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند الله لايكون عملا صالحا بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة الله فإن الله تعالى لا يقبــل من العمل ما أريد به وجهه كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً فأشرك فيه غيرى فانا منه برئ وهو كله للذى أشرك وثبت فى الصحيح فى حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار القارئ المرائى والمجاهد المرائى والمتصدق المرائى .
بل إخلاص الدين لله هو الدين الذى لايقبل الله سواه وهو الذى بعث به الأولين والأخرين من الرسل وأنزل به جميع الكتب واتفق عليه أئمة أهل الإيمان وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية وهو قطب القرآن الذى تدور عليه رحاه .
قال تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) والسورة كلها عامتها فى هذا المعنى كقوله قل أنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لان أكون أول المسلمين إلى قوله قل الله أعبد مخلصاً له دينى الى قوله أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه الى قوله قل أفرأيتم ما تدعون من دون تالله أن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره الآية الى قوله أم أتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانـوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم اليه ترجعون وإذ ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لايؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون الى قوله قل أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون الى قوله بل الله فاعبد وكن من الشاكرين .
وقال تعالى فيما قصه من قصة آدم وابليس أنه : (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وقال تعالى : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) وقال تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)فبين أن سلطان الشيطان وأغواءه إنما هو لغير المخلصين ولهذا قال فى قصة يوسف كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين واتباع الشيطان هم أصحاب النار كما قال تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) وقد قال سبحانه : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء) وهذه الآية فى حـق من لم يتب ولهذا خصص الشرك وقيد ما سواه بالمشيئة فأخبر أنه لايغفر الشرك لمن لم يتـب منه وما دونه يغفره لمن يشاء وأما قوله قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهـم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا فتلك فى حق التائبين ولهذا عم وأطلق وسياق الآية يبين ذلك مع سبب نزولها .
وقد أخبر سبحانه أن الآولين والآخرين إنما أمروا بذلك فى غير موضع كالسورة التى قرأها النبى صلى الله عليه وسلم على أبى لما أمره الله تعالى أن يقرأ عليه قراءة إبلاغ وإسماع بخصوصه فقال : (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة) وهذا حقيقة قول لا اله إلاالله وبذلك بعث جميع الرسل قال الله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) وقال تعالى : (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) وجميع الرسل افتتحوا دعوتهم بهذا الأصل كما قال نوح عليه السلام اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وكذلك هود وصالح وشعيب عليهم السلام وغيرهم كل يقول أعبدوا الله مالكم من إله غيره لا سيما افضل
الرسل الذين إتخذ الله كلاهما خليلا إبراهيم ومحمداً عليهما السلام فان هذا الأصل بينه الله بهما وأيدهما فيه ونشره بهما فابراهيم هو الإمام الذى قال الله فيه إنى جاعلك للناس إماماً وفى ذريته جعل النبوة والكتاب والرسل فأهل هذه النبوة والرسالة هم من آله الذين بارك الله عليهم قال سبحانه : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فهذه الكلمة هى كلمة الإخلاص لله وهى البراءة من كل معبود الأمن الخالق الذى فطرنا كما قال صاحب يس مالى لا أعبد الذى فطرنى واليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عنى شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إنى إذا لفى ضلال مبين وقال تعالى فى قصته بعد أن ذكر ما يبين ضلال من إتخذ بعض الكواكب ربا يعبده من دون الله قال فلما أفلت قال ياقوم إنى برئ مما تشركون إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين الى قوله ولا تخافون أنكم أشركتم بالله مالم ينزل به عليكم سلطاناً وقال إبراهيم الخليل عليه السلام أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فانهم عدو لي إلا رب العالمين الذى خلقنى فهو يهدين والذى هو يطمعنى ويسقين واذا مرضت فهو يشفين والذى يميتنى ثم يحيين وقال تعالى : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) ، ونبيا صلىالله عليه وسلم هو الذى أقام الله به الدين الخالص لله دين التوحيد وقمع به المشركين من كان مشركاً فى الأصل ومن الذين كفروا من أهل الكتب وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الامام أحمد وغيره بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزفى تحت ظل رمحى وجعل الذلة والصغار على من خالف أمرى ومن تشبه بقوم منهم وقد تقدم بعض ما أنزل الله عليه من الآيات المتضمنة للتوحيد وقال تعالى ايضا والصافات صفا الى قوله إن إلهكم لواحد الى قوله إنهم كانوا إذا قيــل لهم لا اله الا الله يستكبرون ويقولون ائنا لتاركوا الهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين الى قوله أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون الى ما ذكره من قصص الأنبياء فى التوحيد واخلاص الدين لله الى قوله سبحان الله عما يصفون إلاعباد الله المخلصين وقال تعالى : (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) وفى الجملة فهذا الأصل فى سورة الأنعام والأعراف والنور وآل طسم .
وآل حم وآل المر وسور المفصل وغير ذلك من السور المكية ومواضع من السور المدنية كثير ظاهر فهو اصل الأصول وقاعدة الدين حتى فى سورتى الاخلاص قل يا أيها الكافرون وقل هوالله أحد وهاتان السورتان كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما فى صلاة التطوع كركعتى الطواف وسنة الفجر وهما متضمنتان للتوحيد .
فأما قل يا أيها الكافرون فهى متضمنة للتوحيد العملى الأرادى وهو إخلاص الدين لله بالقصد والإرادة وهو الذى يتكلم به مشائخ التصوف غالبا واما سورة قل هو الله أحد فمتضمنة للتوحيد القولى العملى كما ثبت فى الصحيحين عن عائشة أن رجلاً كان يقرأ قل هو الله أحد فى صلاته فقال النبى صلى الله عليه وسلم سلوه لم يفعل ذلك فقال لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها فقال أخبروه أن الله يحبه .
ولهذا تضمنت هذه السورة من وصف الله سبحانة وتعالى الذى ينفى قول أهل التعطيل وقول أهل التمثيل ما صارت به هى الأصل المعتمد فى سائل الذات كما قد بسطنا ذلك فى غير هذا الموضع وذكرنا اعتماد الأئمة عليها مع ما تضمنته من تفسير الأحد الصمد كما جاء تفسيره عن النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وما دل على ذلك من الدلائل .
لكن المقصود هنا هو التوحيد العملى وهو إخلاص الدين لله وان كان أحد النوعين مرتبطاً بالأخر فلا يوجد أحد من أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة إلا وفيه نوع من الشرك العملى إذ أصل قولهم فيه شرك وتسوية بين الله وبين خلقه أو بينه وبين المعدومات كما يسوى المعطلة بينه وبين المعدومات فى الصفات السلبية التى لا تستلزم مدحاً ولا ثبوت كمال أو يسوون بينه وبين الناقص من الموجودات فى صفات النقص وكما يسووى إذا أثبتوا هم ومن ضاها هم من الممثلة بينه وبين المخلوقات فى حقائقها حتى قد يعبدونها فيعدونها فيعدلون بربهم ويجعلون له أندادا ويسوون المخلوقات برب العالملين .
واليهود كثيراً ما يعدلون الخالق بالمخلوق ويمثلونه به حتى يصفوا الله بالعجز والفقر والبخل ونحـو ذلك من النقائص التى يجب تنزيهه عنها وهى من صفات خلقه والنصارى كثيــراً ما يعدلون المخلوق بالخالق حتى يجعلوا فى المخلوقات من نعوت الربوبية وصفات الإلهية ويجوزون له ما لا يصلح إلا للخالق سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً .
والله سبحانه وتعالى قد أمرنا أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم ولا الضالين وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون وفى هذه الأمة من فيه شبه من هؤلاء وهؤلاء كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن والحديث فى الصحيحين .
فاذا كان أصل العمل الدينى هو إخلاص الدين لله وهو إرادة الله وحده فالشئ المراد لنفسه هو المحبوب لذاته وهذا كمال المحبة لكن أكثر ما جاء المطلوب مسمى باسم العبادة كقوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله يا أيها الناس أعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم وامثال هذا والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته وكمال الذل ونهايته فالمحبوب الذى لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبوداً والمعظم الذى لا يحب لا يكون معبوداً ولهذا قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله فبين سبحانه أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أندادا وإن كانوا يحبونهم كما يحبون الله فالذين آمنوا اشد حباً لله منهم لله ولأوثانهم لأن المؤمنين أعلم بالله والحب يتبع العلم وأن المؤمنين جعلوا جميع حبهم لله وحده أعلم بالله والحب يتبع العلم ولأن المؤمنين جعلوا جميع حبهم لله وحده وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب ومعلوم أن ذلك اكمل قل تعالى : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) .
واسم المحبة فيه إصلاق وعموم فإن المؤمن يحب الله ويجب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين وإن كان ذلك من محبة الله وإن كانت المحبة التى لله لا يستحقها غيره ولهذا جاءت محبة الله سبحانه وتعالى مذكورة بما يختص به سبحانه من العبادة والإنابة إليه والتبتل له ونحو ذلك فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سبحانه وتعالى .
ثم أنه كما بين أن محبته أصل الدين فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصها فان النبى صلىالله عليه وسلم قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله فاخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل وهو أعلاه وأشرفه وقد قال تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) والنصوص فى فضائل الجهاد واهله كثيره
وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد والجهاد دليل المحبة الكاملة قال تعالى : (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ .... الآية) وقال تعال فى صفة المحبين المحبوبين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب ما يحب محبوبه ويبغض ما يبغض محبوبه ويوالى من يواليه ويعادي من يعاديه ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه ويأمر بما يأمر به وينى عنه فهو موافق له فى ذلك وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم إذ هم انما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى بكر فى طائفـة فيهـم صهيـب وبلال لعلك أغضبتهم لأن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك فقال لهم يا إخوتى هل أغضبتكم قالوا لا يغفر الله لك يا أبا بكر وكان قد مر بهم أبو سفيان بن حرب فقالوا ما أخذت السيوف من عدو الله مأخذها فقال لهم أبو بكر أتقولون هذا لسيد قريش وذكر أبو بكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال له ما تقدم لأن أولئك إنما قالوا ذلك غضباً لله لكمال ما عندهم من الموالاة لله ورسوله والمعاداة لأعداء الله ورسوله .
ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح فيما يروى عن ربه لا يزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها بي يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى ولئن سألنى لأعطيته ولئن إستعاذنى لأعيذنه وما ترددت عن شئ أنا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدى المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا يد له منه فبين سبحانه أنه يتردد لأن التردد تعارض إرادتين وهو سبحانه يحب ما يحب عبده ويكره ما يكرهه وهو يكره الموت فهو يكرهه كما قال وأنا أكره مساءلته وهو سبحانه قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت فسمى ذلك تردداً ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك .
وهذا إتفاق واتحاد فى المحبوب المرضى المأمور به والمبغض المكروه المنهى عنه وقد يقال له إتحاد نوعى وصفى وليس ذلك إتحاد الذاتين فان ذلك محال ممتنع والقائل به كافر وهو قول النصارى والغالية من الرافضة والنساك كالحلاجية ونحوهم وهو الاتحاد المقيد فى شئ بعينه .
وأما الإتحاد المطلق الذى هو قول أهل وحدة الوجود الذين الذين يزعمون أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق فهذا تعطيل للصانع وجحود له وهو جامع لكل شرك فكما إن الإتحاد نوعان فكذلك الحلول نوعان قوم يقولون بالحلول المقيد فى بعض الأشخاص وقوم يقولون بحلوله فى كل شئ وهم الجهمية الذين يقولون أن ذات الله فى كل مكان .
وقد يقع لبعض المصطلمين من أهل الفناء فى المحبة أن يغيب بمحبونه عن نفسه وحبه ويغيـب بمدكـوره عـن ذكره وبعروفة عن معرفته وبموجوده عن وجوده حتـى لا يشهد الا محبوبه فيظن فى زوال تمييزه ونقص عقله وسكره أنه هو محبوبه كما قيل أن محبوباً وقع فى اليم فألقى المحب نفسه خلفه فقال أنا وقعت فأنت ما الذى أوقعك فقال غبت بك عنى فظننت أنك أنى فلا ريب أن هذا خطأ وضلال ، لكن إن كان هذا لقوة المحبة والذكر من غير أن يحصل عن سبب محظور زال به عقله كان معذورا فى زوال عقله فلا يكون مؤاخذا بما يصدر منه من الكلام فى هذه الحال التى زال فيها عقله بغير سبب محظور كما قيل فى عقلاء المجانين إنهم قوم آتاهم الله عقولاً وأحوالاً فسلب عقولهم وأبقى احوالهم وأسقط ما فرض بما سلب ، وأما إذا كان السبب الذى به زوال العقل مخطوراً لم يكن السكران معذوراً وان كان لا يكم بكفره فى أصح القولين كما لا يقع طلاقة فى أصح القولين وأن كان النزاع فى الحكم مشهورا وقد بسطنا الكلام فى هذا وفيمن يسلم له حاله ومن لا يسلم فى قاعدة ذلك وبكل حال فالفناء الذى يفضى بصاحبه الى مثل هذا حال ناقص وإن كان صاحبه غير مكلف ولهذا لم يرد مثل هذا عن الصحابة الذين هم أفضل هذه الأمة ولا عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو افضل الرسل وإن كان لهؤلاء فى صعق موسى نوع تعلق وإنما حدث زوال العقل عند الواردات الآلهية على بعض التابعين ومن بعدهم وأن كانت المحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب فى محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته فمن المعلوم ان من احب الله المحبة الواجبة فلا بد ان يبغض أعداءه ولا بد ان يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى : ()إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) ، والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللأئم وعذل العاذل بل ذلك يغريه بملازمة المحبة كما قد قال أكثر الشعراء فى ذلك وهؤلاء هم أهل الملام المحمود وهم الذين لا يخافون من يلومهم على ما يحب الله ويرضاه من جهاد أعدائه فان الملام على ذلك كثير وأما الملام على فعل ما يكرهه الله أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق وليس من المحمود الصبر على هذا الملام بل الرجوع الى الحق خير من التمادى فى الباطل وبهذا يحصل الفرق بي الملامية الذين يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم فى ذلك وبين الملامية الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصبرون على الملام فى ذلك .
فصل وإذا كانت المحبة اصل كل عمل دينى فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع اليها فان الراجى الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب قال تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ) ورحمته إسم جامع لكل خير وعذابه إسم جامع لكل شر ودار الرحمة الخالصة هى الجنة ودار العذاب الخالص هى النار وأما الدنيا فدار إمتزاج فالرجاء وإن تعلق بدخول الجنـة فالجنـة إسم جامع لكل نعيم وأعلاه النظر الى وجه الله كما فى صحيح مسلم عـن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن صهيب عن النبى صلى الله عليه وسلم قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد لأن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ألم يثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون اليه فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة .
ومن هنا يتبين زوال الإشتباه فى قول من قال ما عبدتك شوقاً الى جنتك ولا خوفاً من نارك وانما عبدتك شوقاً الى رؤيتك فان هذا القائل ظن هو ومن تابعه إن الجنة لا يدخل فى مسماها الا الأكل والشرب واللباس والنكاح والسماح ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات كما يوافقه على ذلك من ينكر رؤية الله من الجهمية أو من يقربها ويزعم أنه لاتمتع بنفس رؤية الله كما يقولـه طائفـة مـن المتفقهة فهؤلاء متفقون على أن مسمى الجنة والآخرة لا يدخـل فيه الا التمتع بالمخلوقات ولهذا قال بعض من غلط من المشائخ لما سمع قوله منكم من يريد الدينا ومنكم من يريد الآخرة قال فأين من يريد الله وقال آخر فى قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) بأن لهم الجنة قال إذا كانت النفوس والأموال بالجنة فأين النظر اليه وكل هذا لظنهم أن الجنة لا يدخل فيها النظر ، و التحقيق أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم وأعلى ما فيها النظر الى وجه الله وهو من النعيم الذى ينالونه فى الجنة كما أخبرت به النصوص وكذلك أهل النار فإنهم محجوبون عن ربهم يدخلون النار مع إن قائل هذا القول إذا كان عارفاً بما يقول فإنما قصده إنك لو لم تخلق ناراً أو لو لم تخلق جنة لكان يجب أن تعبد ويجب التقرب اليك والنظر إليك ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق ، وأما عمل الحى بغير حب ولا إرادة أصلاً فهذا ممتنع وان تخيله بعض الغالطين من النساك وظن أن كمال العبد ان لاتبقى له ارادة اصلا فذاك لأنه تكلم فى حال الفناء والفانى الذى يشتغل بمجبوبه له ارادة ومحبة ولكن لا يشعر بها فوجود المحبة شىء والإرادة شئ والشعور بها شئ آخر فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها وهو غلط فالعبد لايتصور أن يتحرك قط إلا عن حب وبغض وارادة ولهذا قال النبى صلىالله عليه وسلم أصدق الأسماء حارث وهمام فكل إنسان له حرث وهو العمل وله هم وهو أصل الإرادة ولكن تارة يقوم بالقلب من محبـة الله ما يدعوه الى طاعته ومن إجلاله والحياء منه ماينهاه عن معصيته كما قال عمر رضى الله عنه نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه أى هو لم يعصه ولو لم يخفه فكيف إذا خافه فإن إجلاله وإكرامه لله يمنعه من معصيته .
فالراجى الخائف إذا تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب باحتجاب الرب عنه والتنعم بتجليه له فمعلوم أن هذا من توابع محبته له فالمحبة هى التى أوجبت محبة التجلى والخوف من الإحتجاب وان تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب بمخلوق والتنعم به فهذا إنما يطلب ذلك بعبادة الله المستلزمة محبته ثم إذا وجد حلاوة محبة الله وجدها أحلى من كل محبة ولهذا يكون إشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شئ كما فى الحديث أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس وهو يبين غاية تنعمهم بذكر الله ومحبته فالخوف من التعذب بمخلوق والرجاء له يسوقه الى محبة الله التى هى الأصل وهذا كله ينبنى على أصل المحبة فيقال قد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العباد المؤمنين كما فى قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) وقوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه) وقوله تعالى : ( أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ) وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما وأن يجب المرء لا يحبه الا الله وأن يكره أن يرجع فى الكفر بعد إذ انقذه الله منه كما يكره أن يلقى فى النار بل محبة رسوله الله صلى الله عليه وسلم وجبت لمحبة الله كما فى قوله تعالى: ( أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) وكما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين وفى صحيح البخارى عن عمر بن الخطاب أنه قال والله يارسول الله لأنت أحب إليّ من كل شئ إلا من نفسى فقال لا ياعمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال والله لأنت أحب إليّ من نفسى قال الآن ياعمر .
وكذلك محبة صحابته وقرابته كما فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الإنصار وقال لا يبغض الإنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر وقال على رضى الله عنه انه لعهد النبى الأمى أنه لا يحبنى إلا مؤمن ولا يبغضنى الا منافق وفى السنن أنه قال للعباس والذى نفسى بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتى يعنى بنى هاشم وقد روى حديث عن إبن عباس مرفوعاً أنه قال أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبونى يحب الله وأحبوا أهل بيتى لأجلى .
وأما محبة الرب سبحانه لعبده فقال تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلاً وقال تعالى يحبهم ويحبونه وقال تعالى وأحسنوا إن الله يحب المحسنين واقسطوا إن الله يحب المقسطين فاتموا اليهم عهدهم الى مدتهم إن الله يحب المتقين فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ان الله يحب المتقين إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص بلى من أوفى بعهده واتقى فان الله يحب المتقين .
وأما الأعمال التى يحبها الله من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة وكذلك حبه لأهلها وهم المؤمنون أولياء الله المتقون .
وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة والذى عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشائخ الدين المتبعون وأئمة التصوف أن الله سبحانه محبوب لذاته محبة حقيقة بل هى أكمل محبة فانها كما قال تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) وكذلك هو سبحانه يحب عباده المرمنين محبة حقيقة .
وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الطرفين زعماً منهم أن المحبة لاتكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة وكان أول من إبتدع هذا فى الإسم هو الجعد بن درهم فى أوائل المائة الثانية فضحى به خالدين بن عبد الله القسرى أمير العراق والمشرق بواسط خطب الناس يوم الأضحى فقال أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فانى مضح بالجعد بن ردهم أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل فذبحه وكان قد أخذ هذا المذهب عنه الجهم بن صفوان فأطهره وناظرعليه واليه أضيف قول الجهمية فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها ثم انتقل ذلك الى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد وظهر قولهم أثناء خلافة المأمون حتى امتحن أئمة الإسلام ودعوا الى الموافقة لهم على ذلك .
وأصل قولهم هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن الرب ليس له صفة ثبوتية أصلاً وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل عليه السلام وهم يعبدون الكواكب ويبنون الهياكل للعقول والنجوم وغيرها وهم ينكرون فى الحقيقة أن يكون إبراهيم خليلا وموسى كليما لأن الخلة هى المحبة المستغرقة للمحب كما قيل قد تخللت مسلك الروح منى * وبذا سمى الخليل خليلا ويشهد لهذا ما ثبت فى الصحيح عن ابى سعيد عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال لوكنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله يعنى نفسه وفى رواية انى أبرأ الى كل خليل من خلته ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا وفى رواية ان الله إتخذنى خليلا كما إتخذ إبراهيم خليلا فبين صلى الله عليه وسلم أنه لايصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلا وانه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس بها أبو بكر الصديق رضى الله عنه .
مع أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصاً كما قال لمعاذ والله أنى لأحبك وكذلك قوله للأنصار وكان زيد بن حارثة حب رسول الله عليه وسلم وكذلك إبنه أسامة حبه وأمثال ذلك وقال له عمرو بن العاص أى الناس أحب اليك قال عائشة قال فمن الرجال قال أبوها وقال لفاطمة إبنته رضى الله عنها ألا تحبين ما أحب قالت بلى قال فأحبى عائشة وقال للحسن اللهم أنى أحبه فأحبه وأحب من يحبه وأمثال هذا كثير.
فوصف نفسه بمحبة أشخاص وقال أنى أبرأ الى كل خليل من خلته ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة بحيث هى من كمالها وتخللها المحب حتى يكون المحبوب بها محبوباً لذاته لا لشئ آخر إذ المحبوب لشئ غيره هو مؤخر فى الحب عن ذلك الغير ومن كمالها لاتقبل الشركة والمزاحمة لتخللها المحب ففيها كمال التوحيد وكمال الحب فالخلة تناقى المزاحمة وتقدم الغير بحيث يكون المحبوب محبوبا لذاته محبة لا يزاحمه فيها غيره وهذه محبه لا تصلح الا لله فلا يجوز أن يشركه غيره فيما يستحقه من المحبة وهو محبوب لذاته وكل ما يحب غيره إذا كان محبوباً بحق فانما يحب لأجله وكل ما أحب لغيره فمحبته باطلة فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله تعالى واذا كانت الخلة كذلك فمن المعلوم أن من أنكر أن يكون الله محبوباً لذاته ينكر مخاللته وكذلك أيضاً أن أنكر محبته لإحد من عباده فهو ينكر أن يتخذه خليلا بحيث يحب الرب ويحبه العبد على أكمل ما يصلح للعباد .
وكذلك تكليمه لموسى أنكروه لإنكارهم أن تقوم به صفة من الصفات أو فعل من الأفعال فكما ينكرون أن يتصف بحياة أو قدرة أو أعلم أو أن يستوى أو أن يجئ فكذلك ينكرون أن يتكلم أو يكلم فهذا حقيقة قولهم كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم .
لكن لما كان الإسلام ظاهراً والقرآن متلوا لا يمكن جحده لمن أظهر الإسلام أخذوا يلحدون فى أسماء الله ويحرفون الكلم عن مواضعه فتأولوا محبة العباد له بمجرد محبتهم لطاعته أو التقرب اليه وهذا جهل عظيم فان محبة المتقرب الى المتقرب اليه تابع لمحبته وفرع عليه فمن لا يحب الشيء لا يحب التقرب إليه إذ التقرب وسيلة ومحبة الوسيلة تبع لمحبة المقصود فيمتنع أن تكون الوسيلة الى الشئ المحبوب دون الشئ المقصود بالوسيلة وكذلك العبادة والطاعة اذا قيل في المطاع المعبود ان هذا يجب طاعته وعبادته فان محبته ذلك تبع لمحبته والا فمن لا يجب لا يحب طاعته وعبادته ومن كان لايعمل لغيره الا لعوض يناله منه أو لدفع عقوبة فانه يكون معاوضا له أو مفتدياً منه لا يكون محباً له ولا يقال أن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته فان محبة المقصود وأن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته فان محبة المقصود وان إستلزمت محبة الوسيلة أو غير محبة الوسيلة فان ذلك يقتضى أن يعبر بلفظين محبة العوض والسلامة عن محبة العمل أما محبة الله فلا تعلق لها بمجرد محبة العوض ألا ترى أن من إستأجر أجيراً بعوض لإيقال أن الأجير يحبه بمجرد ذلك بل قد يستأجر الرجل من لايحبه بحال بل من يبغضه وكذلك من افتدى نفسه بعمل من عذاب معذب لا يقال أنه يحبه بل يكون مبغضاً له فعلم ان ما وصف الله به عباده المؤمنين من أنهم يحبونه يمتنع أن لا يكون معناه الا مجرد محبة العمل الذى ينالون به بعض الفرائض المخلوقة من غير أن يكون ربهم محبوبا أصلاً .
وأيضاً فلفظ العبادة متضمن للمحبة مع الذل كما تقدم ولهذا كانت محبة القلب للبشر على طبقات .
أحدها العلاقة وهو تعلق القلب بالمحبوب ثم الصبابة وهو إنصباب القلب إليه ثم الغرام وهو الحب اللازم ثم العشق وآخر المراتب هو التتيم وهو التعبد للمحبوب والمتيم المعبود وتيم الله عبد الله فان المحب يبقى ذاكراً معبداً مذللًا لمحبوبه ، وأيضاً فاسم الإنابة اليه يقتضى المحبة أيضاً وما أشبه ذلك من الأسماء كما تقدم ، وأيضاً فلو كان هذا الذى قالوه حقاً من كون ذلك مجازا لما فيه من الحذف والإضمار فالجاز لا يطلق إلا بقرينه تبين المراد ومعلوم أن ليس فى كتاب الله وسنة رسوله ما ينفى أن يكون الله محبوباً وأن لا يكون المحبوب إلا الأعمال لا فى الدلالة المتصلة ولا المنفصلة بل ولا فى العقل أيضاً وأيضاً فمن علامات المجاز صحةاطلاق نفيه فيجب أن يصح اطلاق القول بأن الله لايحب ولا يحب كما أطلق إمامهم الجعد بن ردهم أن الله لم يتخذ ابراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ومعلوم أن هذا ممتنع باجماع المسلمين فعلم دلالة الإجماع على أن هذا ليس مجازاً بل هى حقيقة .
وأيضاً فقد فرق بين محبته ومحبة العمل له فى قوله تعالى احب اليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله كما فرق بين محبته ومحبة رسوله فى قوله تعالى احب اليكم من الله ورسوله فلو كان المراد بمحبته ليس الا محبة العمل لكان هذا تكريراً أو من باب عطف الخاص على العام وكلاهما على خلاف ظاهر الكلام الذى لا يجوز المصير اليه الا بدلالة تبين المراد وكما ان محبته لايجوز أن تفسر بمجرد محبة رسوله فكذلك لا يجوز تفسيرها بمجرد محبة العمل له وان كانت محبته تستلزم محبة رسوله ومحبة العمل له .
وأيضاً فالتعبير بمحبة الشئ عن مجرد محبته طاعته لا عن محبة نفسه أمر لا يعرف فى اللغة لا حقيقة ولا مجازاً فحمل الكلام عليه تحريف محض أيضاً وقد قررنا فى مواضع من القواعد الكبار أنه لايجوز أن يكون غير الله محبوباً مراداً لذاته كما لا يجوز أن يكون غير الله موجوداً بذاته بل لارب الا الله ولا اله الا هو المعبود الذى يستحق أن يحب لذاته وبعظم لذاته كمال المحبة والتعظيم .
وكل مولود يولد على الفطرة فانه سبحانه فطر القلوب على أنه ليس فى محبوباتها ومراداتها ما تطمئن اليه وتنتهى اليه الا الله وحده وان كل ما أحبه المحبوب من مطعوم وملبوس ومنظور ومسموع وملموس يجد من نفسه أن قلبه يطلب شيئاً سواه ويحب أمراً غيره يتألهه ويصمد اليه ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من هذه الاجناس ولهذا قال الله تعالى فى كتابه الا بذكر الله تطمئن القلوب وفى الحديث الصحيح عن عياض بن حمار عن النبى صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى انه قال إنى خلقت عبادى حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهــم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بى مالم انزل به سلطانا كما فى الصحيحين عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتح البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا إن شئام فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم .
وأيضاً فكل ما فطرت القلوب على محبته من نعوت الكمال فالله هو المستحق له على الكمال وكل ما فى غيره من محبوب فهو منه سبحانه وتعالى فهوالمستحق لأن يحب على الحقيقة والكمال وإنكار محبة العبد لربه هو فى الحقيقة إنكار لكونه إلهاً معبوداً كما أن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته وهو يستلزم إنكار كونه رباً خالقا فصار إنكارها مستلزماً لإنكار كونه رب العالمين ولكونه إله العالمين وهذا هو قول أهل التعطيل والجحود .
ولهذا اتفقت الأمتان قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى صلوات الله عليهما وسلامه إن أعظم الوصايا أن تحب الله بكل قلبك وعقلك وقصدك وهذا هو حقيقة الحنيفية ملة ابراهيم التى هى أصل شريعه التوراة والانجيل والقرآن وإنكار ذلك هو مأحوذ عن المشركين والصابئين أعداء إبراهيم الخليل ومن وافقهم على ذلك من متفلسف ومتكلم ومتفقه ومبتدع أخذ عن هؤلاء وظهر ذلك فى القرامطة الباطنية من الإسماعيلية ولهذا قال الخليل أمام الحنفاء صلوات الله وسلامه عليه أفرأيتم ماكنتم تعبدون أنتم وآباؤكم القدمون فإنهم عدو لى إلا رب العالمين وقال إيضاً لا أحب الآفلين وقال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) وهو السليم من الشرك .
وأما قولهم أنه لا مناسبة بين المحدث والقديم توجب محبته له وتمتعه بالنظر اليه فهذا الكلام مجمل فان أرادوا بالمناسبة انه ليس بينهما توالد فهذا حق وان أرادوا أنه ليس بينهما من المناسبة ما بين الناكح والمنكوح والآكل والمأكول أو نحو ذلك فهذا أيضاً حق وإن أرادوا أنه لا مناسبة بينهما توجب أن يكون أحدهما محبا عابداً والآخر معبوداً محبوباً فهذا هو رأس المسأله فالاحتجاج به مصادرة على المطلوب ويكفى فى ذلك المنع .
ثم يقال بل لا مناسبة تقتضى المحبة الكاملة إلا المناسبة التى بين المخلوق والخالق الــذى لا إله غيره الذى هو فى السماء وفى الآرض إله وله المثل الأعلى فى السموات والأرض وحقيقة قول هؤلاء جحد كون الله معبوداً فى الحقيقة ولهذا وافق على هذه المسأله طوائف من الصوفية المتكلمين الذين ينكرون أن يكون الله محباً فى الحقيقة فأقروا بكونه محبوباً ومنعوا كونه محبا لأنهم تصوفوا مع ما كانوا عليه من قول أولئك المتكلمة فأخذوا عن الصوفية مذهبهم فى المحبة وإن كانوا قد يخلطون فيه وأصل إنكارها إنما هو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية فأما محبة الرب عبده فهم لها أشد إنكاراً ومنكروها قسمان قسم يتأولونها بنفس المفعولات التى يحميها العبد فيجعلون محبته في خلقه .
و قسم يجعلونها نفس إرادته لتلك المفعولات وقد بسطنا الكلام فى ذلك فى قواعد الصفات والقدر وليس هذا موضعها ومن المعلوم أنه قد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة على أن الله يحب ويرضى ما أمر بفعله من أوجب ومستحب وإن لم يكن ذلك موجوداً وعلى أنه قد يريد أمور يبغضها ويسخطها من الأعيان والأفعال كالفسق والكفر وقد قال الله تعالى : ( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) وقال تعالى : (ْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) والمقصود هنا انما هو ذكر محبة العباد لآلهتهم .
وقد تبين أن ذلك هو أصل أعمال الإيمان ولم يتبين بين أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان نزاع فى ذلك وكانوا يحركون هذه المحبة بما شرع الله أن تحرك به من أنواع العبادات الشرعية كالعرفان الإيمان الإيمانى والسماع الفرقانى قال تعالى : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى آخر السورة ثم أنه لما طال المد صار فى طوائف المتكلمة من المعتزلة وغيرهم من ينكر هذه المحبة .
وصار فى بعض المتصوفة من يطلب تحريكها بأنواع من سماع الحديث كالتغيير وسماع المكاء والتصدية فيسمعون من الأقوال والأشعار ما فيه تحريك جنس الحب الذى يحرك من كل قلب ما فيه من الحب بحيث يصلح لمحب الأوثان والصلبان والأخوان والأوطان والمردان والنسوان كما يصلح لمحب الرحمن ولكن كان الذين يحضرونه من الشيوخ يشترطون له المكان والإمكان والخلان وربما اشترطوا له الشيخ الذى يحرس من الشيطان ثم توسع فى ذلك غيرهم حتى خرجوا فيه الى أنوا من المعاصى بل إلى أنواع من الفسوق بل خرج فيه طوائف الى الكفر الصريح بحيث يتواجدون على أنواع من الأشعار التي فيها الكفر والإلحاد مما هو من أعظم أنواع الفساد وتنتج ذلك لهم من الأحوال بحسبه كما تنتج لعباد المشركين واهل الكتاب عباداتهم بحسبها .
والذى عليه محققوا المشائخ أنه كما قال الجنيد رحمه الله من تكلف السماع فتن به ومن صادفه السماع استراح به ومعنى ذلك أنه لا يشرع الإجتماع لهذا السماع المحدث ولا يؤمر به ولا يتخذ ذلك دينا وقربة فان القرب والعبادات نما تؤخذ عن الرسل صلات الله وسلامه عليهم فكما أنه لا حرام الا إما حرمه الله ولا دين إلا ما شرعه الله قال الله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) وقال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فجعل محبتهم لله موجبة لمتابعة رسوله وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة الله لهم قال أبى ابن كعب رضى الله عنه عليكم بالسبيل والسنة فانه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله فاقشعر جلده من مخافة الله الا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبداً وان إقتصاداً فى سبيل وسنة خير من إجتهاد فى خلاف سبيل وسنة فاحرصوا أن تكون أعمالكم إقتصاداً وإجتهاداًعلى منهاج الأنبياء وسنتهم وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع .
فلو كان هذا مما يؤمر به ويستحب وتصلح به القلوب للمعبود المحبوب لكان ذلك مما دلت الأدلة الشرعية عليه ومن المعلوم أنه لم يكن فى القرون الثلاثة المفضلة التى قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم خير القرون قرنىالذى بعثت فيه ثم الذين بلونهم ثم الذين يلونهم لا فى الحجاز ولا فى الشام ولا فى اليمن ولا فى العراق ولا فى مصر ولا فى خراسان أحد من أهل الخير والدين يجتمع على سماع المبتدع لصلاح القلوب ولهذا كرهه الأئمة كالإمام أحمد وغيره حتى عده الشافعى من أحداث الزنادقة حين قال خلقت ببغداد شيئا أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن .
وأما مالم يقصده الإنسان من الإستماع فلا يترتب عليه لا نهى ولا ذم باتفاق الأئمة ولهذا إنما يترتب الذم والمدح علىالإستماع لا على السماع فالمستمع للقرآن يثاب عليه والسامع له من غير قصد وإرادة لا يثاب على ذلك إذ الأعمال بالنيات وكذلك ما ينهى عن إستماعه من الملاهى لو سمعه السامع بدون قصده لم يضره ذلك فلو سمع السامع بيتاً يناسب بعض حاله فحرك ساكنه المحمود وأزعج قاطنه المحبوب أو تمثل بذلك ونحو ذلك لم يكن هذا مما ينهى عنه وكان المحمود الحسن حركة قلبه التى يحبها الله ورسوله الـى محبته التى تتضمن فعل ما يحبه الله وترك ما يكرهه الله كالذى اجتاز بيتا فسمع قائلا يقول كل يوم تتلون * غير هذا بك اجمل فاخذ منه اشارة تناسب حاله فإن الإشارات من باب القياس والإعتبار وضرب الأمثال ومسأله السماع كبيرة منتشرة قد تكلمنا عليها فى غير هذا الموضع والمقصود هنا أن القاصد المطلوبة للمريدين تحصل بالسماع الايمانى القرأنى النبوى الدينى الشرعى الذى هو سماع النبيين وسماع العالمين وسماع العارفين وسماع المؤمنين قال الله تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) وقال تعالى : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً) وقال تعالى : ()وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) وقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) وقال تعالى : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ...... الآية) وكما مدح المقبلين على هذا السماع فقد ذم المعرضين عنه فى مثل قوله ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغيرعلم ويتخذها هزوا الى قوله واذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن فى اذنيه وقرا فبشره بعذاب اليم وقال تعالى : ()وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً) وقال تعالى : (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) وقال تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ .... الآية) وقال تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) وقال تعالى : (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) ومثل هذا كثير فى القرآن .
وهذا كان سماع سلف الأمة وأكابر مشائخها وأئمتها كالصحابة والتابعين ومن بعدهم من المشائخ كابراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأبى سليمان الدارانى ومعروف الكرخى ويوسف بن أسباط وحذيفة المرعشى وأمثال هؤلاء وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول لأبى موسى الأشعرى يا أبا موسى ذكرنا ربنا فيقرأوهم يسمعون ويبكون وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ القرآن والباقى يستمعون وقد ثبت فىالصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بأبى موسى الأشعرى وهو يقرأ فجعل يستمع لقراءته وقال لقداوتى هذا مزماراً من مزامير آل داود وقال مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت إستمع لقراءتك فقال لو علمت إنك تسمع لحبرته لك تحبراً أى لحسنته لك تحسنياً وقال صلى الله عليه وسلم زينوا القرآن من صاحب بأصواتكم وقال الله اشد أذناً الى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة الى قينته أذناً اى إستماعاً كقوله وأذنت لربها وحقت أى إستمعت وقال صلى الله عليه وسلم ما اذن الله لشئ ما أذن لنبى حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به وقال ليس منا من لم يتغن بالقرآن ولهذا السماع من المواجيد العظيمة والأذواق الكريمة ومزيد المعارف والأحوال الجسيمة مالا يتسع له خطاب ولا يحويه كتاب كما أن فى تدبر القرآن وتفهمه من مزيد العلم والإيمان مالا يحيط به بيان .
ومما ينبغى التفطن له أن الله سبحانه قال فى كتابه قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله قال طائفة من السلف إدعى قوم على عهد النبى صلى اله عليه وسلم أنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية قل إن كنتم تحبون الله فإتبعونى يحببكم الله الآية فبين سبحابه إن محبته توجب إتباع الرسول وإن إتباع الرسول يوجب محبة الله للعبد وهذه محبة إمتحن الله بها أهل دعوى محبة الله فان هذا الباب تكثر فيه الدعاوى والاشتباه ولهذا يروى عن ذى النون المصرى أنهم تكلموا فى مسألة المحبة عنده فقال اسكتوا عن هذه المسألة لئلا تسمعها النفوس فتدعيها .
وقال بعضهم من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حرورى ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد وذلك لأن الحب المجرد تنبسط النفوس فيه حتى تتوسع فى أهوائها إذا لم يزعها وازع الخسية لله حتى قالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ويوجد فى مدعى المحبة من مخالفة الشريعة مالا يوجد فى أهل الخشية ولهذا قرن الخشية بها فى قوله هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود وكان المشائخ المصنفون فى السنة يذكرون فى عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية لما فى ذلك من الفساد الذى وقع فيه طوائف من المتصوفـة وما وقع فى هؤلاء من فساد الإعتقاد والإعمال أوجب إنكار الطوائف لأصل طريقة المتصوفة بالكلية حتى صار المنحرفون صنفين .
صنف يقر بحقها وباطها وصنف ينكر حقها وباطلها كما عليه طوائف من أهل الكلام والفقه والصواب إنما هو الإقرار بما فيها وفى غيرها من موافقة الكتاب والسنة والإنكار لما فيها وفى غيرها من مخالفة الكتاب والسنة .
وقال تعالى : ()قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فاتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وشريعته باطناً وظاهراً هى موجب محبة الله كما أن الجهاد فى سبيله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه هو حقيقتها كما فى الحديث اوثق عرى الإيمان الحب فى الله والبغض فىالله وفى الحدي من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان .
وكثير يدعى المحبة هو أبعد من غيره عن إتباع السنة وعن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد فى سبيل الله ويدعى مع هذان أن ذلك أكمل لطريق المحبة من غيره لزعمه أن طريق المحبة لله ليس فيه غيره ولا غضب لله وهذا خلاف مادل عليه الكتاب والسنة ولهذا فى الحديث المأثور يقول الله تعالى يوم القيامة أين المتحابون بجلالى اليوم أظلهم فى ظلى يوم لا ظل إلا ظلى فقوله أين المتحابون بجلال الله تنبيه على مافى قلوبهم من إجلال الله وتعظيمه مع التحاب فيه وبذلك يكونون حافظين لحددوه دون الذين لا يحفظون حدوده لضعف الإيمان فى قلوبهم وهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث حقت محبتى للمتحابين فى وحقت محبتى للمتجالسين فى وحقت محبتى للمتزاورين فى وحققت محبتى للمتباذلين فى والأحاديث فى المتحابين فى الله كثيرة .
وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع اليه ورجلان تحابا فى الله إجتمعا وتفرقا عليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال انى أخاف الله رب العالمين .
وأصل المحبة هو معرفة الله سبحانه وتعالى ولها أصلان :
أحدهما : وهو الذى يقال له محبة العامة لأجل إحسانه الى عباده وهذه المحبة على هذا الأصل لا ينكرها أحد فان القلوب مجبولة على حب من أحسن اليها وبغض من أسماء إليها والله سبحانه هو المنعم المحسن الى عبده بالحقيقة فانه المتفضل بجميع النعم وان جرت بواسطة إذ هو ميسر الوسائط ومسبب الأسباب ولكن هذه المحبة فى الحقيقة إذا لم تجذب القلب الى محبة الله نفسه فما أحب العبد فىالحقيقة الا نفسه وكذلك كل من أحب شيئا لأجل إحسانه إليه فما أحب فى الحقيقة الا نفسه وهذا ليس بمذموم بل محمود .
وهذه المحبة هي المشار اليها بقوله صلى الله عليه وسلم أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبونى لحب الله وأحبوا أهلى بحبى والمقتصر على هذه المحبة هو لم يعرف من جهة الله ما يستوجب أنه يحبه إلا إحسانه اليه وهذا كما قالوا إن الحمد لله على ونوعين ، حمد هو شكر وذلك لا يكون إلا على نعمته . و حمد هو مدح وثناء عليه ومحبة له وهو بما يستحقه لنفسه سبحانه فكذلك الحب فإن الأصل الثانى فيه هو محبته لما هو له أهل وهذا حب من عرف من الله ما يستحق أن يحب لأجله وما من وجه من الوجوه التى يعرف الله بها مما دلت عليه أسماؤه وصفاته إلا وهو يستحق المحبة الكاملة من ذلك الوجه حتى جميع مفعولاته إذ كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل ولهذا إستحق أن يكون محمودا على كل حال ويستحق أن يحمد على السراء والضراء وهذا أعلى وأكمل وهذا حب الخاصة ، وهؤلاء هم الذين يطلبون لذة النظر الى وجهه الكريم ويتلذذون بذكره ومناجاته ويكون لهم أعظم من الماء للسمك حتى لو انقطعوا عن ذلك لوجدوا من الألم مالا يطيقون وهم السابقون كما فى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال مر النبى صلى الله عليه وسلم بجبل يقال له جمدان فقال سيروا هذا جمدان سبق المفردون قالوا يارسول الله من المفردون قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات وفى رواية اخرى قال المستهترون وبذكر الله يضع االذكرعنهم أثقالهم فيأتون الله يوم القيامة خفافاً والمستهتر بذكر الله يتولع به ينعم به كلف لا يفتر منه .
وفى حديث هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال موسى يارب أى عبادك أحب اليك قال الذى يذكرنى ولا ينسانى قال أى عبادك أعلم قال الذى يطلب علم الناس الى علمه ليجد كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى قال أى عبادك أحكم قال الذى يحكم على نفسه كما يحكم على غيره ويحكم لغيره كما يحكم لنفسه فذكر فى هذا الحديث الحب والعلم والعدل وذلك جماع الخير .
ومما ينبغى التفطن له أنه لايجوز أن يظن فى باب محبة الله تعالى ما يظن فى محبة غيره مما هو من جنس التجنى والهجر والقطيعة لغير سبب ونحو ذلك مما قد يغلط فيه طوائف من الناس حتى يتمثلون فى حبه بجنس ما يتمثلون به فى حب من يصد من يصد ويقطع بغير ذنب أو يبعد من يتقرب اليه وان غلط فى ذلك من المصنفين فى رسائلهم حتى يكون مضمون كلامهم إقامة الحجة على الله بل لله الحجة البالغة .
وقد ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى من ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى ومن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منه ومن تقرب اليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب اليّ ذراعاً تقريب اليه باعاً ومن أتانى يمشى أتيته هرولة وفى بعض الآثار يقول الله تعالى أهل ذكرى أهل مجالستى وأهل شكرى أهل زيارتى وأهل طاعتى أهل كرامتى وأهل معصيتى لا أؤيسهم من رحمتى وأن تابوا فأنا حبيبهم لأن الله يحب التوابين وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب حتى أطهرهم من المعائب وقد قال تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) قالوا الظلم أن يحمل عليه سيئات غيره والهضم أن ينقض من حسنات نفسه وقال تعالى : (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وفى الحديث الصحيح عن أبى ذر رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى ياعبادى أنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ياعبادى كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم عبادى كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعمونى أطعمكم ياعبادى كلكم عار ألا من كسوته فاستكسونى اكسكم ياعبادى أنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا اغفر الذنوب ولا أبالى فاستغفرونى أغفر لكم ياعبادى لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم مازاد ذلك فى ملكى شيئاً ياعبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئاً ياعبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم إجتمعوا فى صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكى إلا كما ينقص المخيط إلا إذا غمس فى البحر يا عبادى إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم أياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه .
ومن ذلك رواه البخارى فى صحيحة عن شداد بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربى لا إله الا الله أنت خلقتنى وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى فانه لا يغفر الذنوب إلا انت من قالها إذا أصبح موقناً بها فمات فى يومه دخل الجنة ومن قالها اذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة .
فالعبد دائما بين نعمة من الله يحتاج فيها الى شكر وذنب منه يحتاج فيه إلى الاستغفار وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائما فانه لا يزال يتقلب فى نعم الله وآلائه ولا يزال محتاجاً الى التوبة والاستغفار .
ولهذا كان سيد آدم وإمام المتقين محمد صلى الله عليه وسلم يستغفر فى جميع الأحوال وقال صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح الذى رواه البخارى أيها الناس توبوا الى ربكم فإنى لأستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة وفى صحيح مسلم أنه قال أنه ليغان على قلبى وأنى لاستغفر الله فى اليوم مائة مرة وقال عبدالله بن عمر كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فىالمجلس الواحد يقول رب أغفر لى وتب على إنك أنت التواب الغفور مائة مرة ولهذا شرع الإستغفار فى خواتيم الأعمال قال تعالى : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) وقال بعضهم أحيوا الليل بالصلاة فلما كان وقت السحر أمروا بالاستغفار وفى الصحيح إن النبى صلى الله عليه وسلم كان إذا إنصرف من صلاته إستغفر ثلاثا وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت باذا الجلال والإكرام وقال تعالى : (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّين) وقد أمر الله نبيه بعد أن بلغ الرسالة وجاهد فى الله حق جهاده وأتى بما أمر الله به مما لم يصل اليه أحد غيره فقال تعالى : (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) ولهذا كان قوام الدين بالتوحيد والإستغفار كما قال الله تعالى : (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ .............. الآية ) الآية وقال تعالى : ( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ) وقال تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ )